زكريا محمد زكريا محمد

السياسة فن الممكن... لكن أي ممكن؟

«السياسة فن الممكن»..

 

 هذه مقولة حرفت عن مقصدها. فقد اعتاد سياسيون وصحفيون ومثقفون كثيرون على استخدامها لتبرير واقع ما، أو لإعطاء الشرعية لخطوة سياسية محددة، محولين المقولة، عمليا، إلى ممسحة للسياسة القائمة، أو أداة لتمرير الخضوع لواقع ما.

غير أن هذه المقولة لا تستحق السمعة السيئة التي ألصقت بها. فقد بنيت هذه السمعة على إزاحة الجانب العميق، الثوري، الهادم للواقع، في هذه المقولة، والتركيز على الجانب المساوم فيها، والذي هو لحظة من لحظاتها، باعتباره جوهرها الفعلي. أي أن هذه السمعة نتجت عن (إخصاء) المقولة، ونزع فتيلها المتفجر، بحيث بدت وكأنها أداة لخدمة الواقع لا لتغييره.

 يفترض السياسي (الواقعي!) والصحفي القليل العمق، أن الممكن هو (المعروض) على الطاولة. عليه تصبح المقولة عندهما بهذه المعنى: (السياسة فن القبول بالمعروض)، أو فن تسويقه، أي أن عليك أن تأخذ بما هو معروض عليك وإلا خسرته. وإذا زادا على ذلك قالا: (خذ المعروض، وطالب بغيره في ما بعد) على طريقة (خد وطالب) البورقيبية المعروفة. فما هو معروض من الخصم هو الحد والأفق.

 وخلال السنوات الماضيات سمعنا في فلسطين من طالبنا، ولعشرات المرات، بأن نأخذ ما هو معروض وأن نوافق عليه لأن (السياسة فن الممكن)، وأن الممكن هو المعروض فقط. أكثر من ذلك فقد قرأت لصحفيين يكتبون أعمدة محاولات (جريئة) لإعادة تقييم بورقيبة المرحوم وإعادة اكتشافه.

 وبما أن (الممكن) هو المعروض، فإن ذلك يعني أن (الممكن) يتحدد بإرادة الخصم فقط. فهو من يضع حدود هذا (الممكن). عليه، فالممكن هو لعبة الخصم وحده، لا لعبة الطرفين المتخاصمين معا. وما دام الأمر كذلك فإن من المؤكد أن كل عرض نرفضه هو فرصة ضائعة وخسارة مؤكدة. فإذا عرض الخصم عرضا فعلينا أن نقبل ذلك فورا مهما كانت الظروف، وان لم نقبل نكون قد ضيعنا الفرصة.

هذا المنطق هو منطق إخصاء مقولة (السياسة فن الممكن) ونزع فتيلها. ذلك أن (الممكن)، تبعا للمعنى الأعمق للمقولة، هو أفق لا واقع. أي أنه الحدود التي يمكن إيصال الواقع ودفعه إليها. الممكن، بهذا المعنى، مثل قطعة مطاط تماما. فواقعها، أي حدّها الساكن، هو خمسة سنتيمترات مثلا. لكن حدها الممكن، المتحرك، حين تشدها، أي أفقها، هو عشرون سنتيمترا. عليه فممكنها الذي يجب تحصيله، وفي اليد تحصيله، هو عشرون سنتيمترا.

 الممكن، إذن، هو استنزاف الواقع، ومده إلى حدوده القصوى، لا الخضوع له في وضعه الساكن.

بهذه الطريقة في محاكمة الأمر نكتشف المعنى الثوري والعميق لمقولة (السياسة فن الممكن). فهي مقولة لمعاندة الواقع وتغييره، لا القبول به والخضوع له.

 لكن المشكلة تتعلق باستكشاف حدود الممكن. أي في تحليل الواقع عمليا. واستكشاف حدود الممكن ليس عملية ذهنية بسيطة، بل هو مغامرة، أي أنه قد يكون حربا ومواجهة. فلكي تصل إلى الحدود الفعلية للممكن، فإنك قد تضطر إلى إشعال حرب. ذلك أن الاشتباك وحده، في لحظة ما، ربما يكون هو الوسيلة التي تتيح توضيح تخوم (الممكن) و (تعليمها باللون الأحمر). فعملية استكشاف حدود (الممكن) تحمل في طياتها جهدا لاستنهاض الطاقات الذاتية والصديقة ودفعها إلى حلبة المساومة، أو المواجهة. والاشتباك يقتضي استنفار الطاقات بأجمعها لإقناع الخصم بأن (ممكنه) ليس هو (الممكن) المقبول.

 ولأن الأمر كذلك، فإن استكشاف حدود (الممكن) عملية خطرة. إذ قد تؤدي خطوة طائشة لا إلى اكتشاف حدود (الممكن) واستنزافها، بل إلى الهزيمة، وتقليص حدود هذا (الممكن). ومن أجل منع الخطوات الطائشة يعمد الساسة المحنكون عادة إلى القول: (السياسة فن الممكن)، أي أن عليك أن تستنزف حدود الممكن، لا أن تتجاوزها، فتجاوزها قد يؤدي إلى كسر العنق. وهذا، بالطبع، يختلف عن استخدام هذه المقولة كممسحة للواقع.

 في فلسطين جربنا في السنوات السبع الماضيات أن نحصل على الممكن بحده الساكن، لا أن نوسع حدوده. لذا كنا ساكنين حتى النهاية. وقد فشلت هذه السياسة تماما. فلأنه ترك للخصم أن يحدد الممكن، فقد تقلص هذه الممكن وانضغط. ذلك أن الممكن قطعة مطاط يمكنها أن تتمدد أو أن تضغط. في هذه السنوات تحولت مقولة (السياسة فن الممكن) إلى (السياسة فن الخضوع لما يصوره العدو على أنه الممكن).

 الواقع، أي الممكن، لا يوصف من دون الإرادة. الإرادة جزء من الواقع، أي من الممكن. جزء من صورته. يعني: ليس الواقع فقط عالما خارج الذات، ينبغي علينا أن نفهمه ونعيه ونقيسه، فقط، بل هو في لحظة أخرى جزء من الذات. الذات عنصر من تكوين الواقع، من تكوين الممكن. وخلال السنوات الماضية لم يكن للذات دور في تكوين الواقع. كان الواقع من تكوين خصمنا عموما. وكانت مهمتنا أن نخضع لهذا الواقع، لا أن نمده ونشده كما تشد قطعة مطاط.