الثقافة الصينية: الخصائص، التغيرات والمستقبل
ظلت الثقافة الصينية منذ مايزد عن القرن موضع نقاش دائم. لكن جزءا كبير من النقاش الدائر حول الثقافة الصينية، خاصة حول تعريف الثقافة الصينية، يعدّ نقاشا فضفاضا، وأحيانا براقا لكنه يجافي الحقيقة الموضوعية. كما أن البعض حينما يتحدثون عن مواضيع تخص الثقافة الصينية، مثل "نشر الثقافة الصينية في العالم" أو "معاني الثقافة الصينية في العالم المعاصر"، غالبا مايُضيقون مفهوم الثقافة الصينية. فيحصرونها في ثقافة (قومية) الهان، ثم يحصرون ثقافة الهان في الثقافة الكونفوشيوسية، ثم يحصرون الأخيرة في الكونفوشيوسية الكلاسيكية. وهو مايخلق سوء فهم للثقافة الصينية.
ترجمة: د. وليد عبدالله
لذلك، نظرا للتنوع العرقي الذي تتميز به الصين، وصعود مكانة الصين على الصعيد الدولي. نحتاج اليوم للنظر إلى الثقافة الصينية بروح عقلانية، تاريخية وواعية، وهذا من شأنه أن يعزز التفاهم والتبادل بين مختلف القوميات الصينية، وبين الثقافة الصينية وثقافات العالم.
لكن هذه الورقة ستركز على فهم ثقافة الهان، بصفتها المحور الرئيسي للثقافة الصينية، من خلال فهم الخصائص الأساسية المكونة لها. وهي الخصائص التي تُميز الثقافة الصينية عن سائر ثقافات العالم الأخرى، أو التي تبدو أكثر وضوحا في الثقافة الصينية من الثقافات الأخرى.
الخصائص الرئيسية للثقافة الصينية
أولا، التفكير من خلال الرموز
كما يعلم الجميع اليوم، أنه بإستثناء بعض الحالات القليلة في العالم اليوم، مثل كتابة دونغبا لدى قومية ناشي بالتبت. فإن جميع أنواع الكتابة التي تنطلق من الصورة قد إختفت من الحياة الحديثة. وتعدّ الرموز الصينية (الهانزي) شكل الكتابة الوحيد الذي مازالت تربطه علاقة مباشرة مع الكتابة التصويرية البدائية.
في الكتابة الصينية هناك رموز على شكل صور، مثل: الشمس (日)،الهلال\القمر(月)، الشجر\الخشب (木)، الماء (水)، النار (火)، الفم (口)، إلخ.
لكن هذه الرموز غير كافية، لذا أضيف إليها الإيحاء من خلال رموز أخرى لتكوين المعاني المركبة. مثلا إذا أضفنا هذ الرمز “爪”(والذي يعني :يكمش بأصابعه) إلى رمز الشجرة، يعطينا الكلمة التالية: “采”، والتي تعني يجني أو ينتقي.
الرمز المستعمل في اللغة الصينية للتعبير عن الإنسان “人”(ران)، هو رسم يشبه شكل الإنسان. وفي الصينية القديمة إذا إستعملنا مبدأ الإيحاء على "رمز الإنسان" من خلال إضافة "رمز الفم"، يمكن التعبير عن مشاعر مختلفة لدى الإنسان. فإذا كان فم الإنسان متجها إلى السماء "兄"، فإن ذلك يعني "الإحتفال"، وإذا أضفنا فمين “咒”فإن ذلك يعني "اللعنة". وإذا كان الفم متجها إلى الأمام “欠”، فذلك يعني "التثاؤب"، أما إذا كان الفم يتجه إلى الخلف "旡"، فهذا يعني "شعور الشبع بعد الأكل".
فالهانزي شيء فريد، وقد شكّلت العديد من خصائص الثقافة الصينية. واستعمالها أدى إلى تطور فنون الكتابة ونظم الشعر في الصين. وهذا النوع من الكتابة الذي يعتمد على وصف شكل الموجودات، لم ينقطع أبدا في الثقافة الصينية، ولديه تأثير كبير على طريقة التفكير والقراءة والكتابة عند الصينيين. بل شمل تأثيره كامل أرجاء شرق آسيا، وشكّل مايسمى بـ"ثقافة الهانزي".
ثانيا، أفكار كونفوشيوس عن "العائلة- الدولة"
تعتمد الثقافة الصينية نظاما معقدا في تحديد أسماء الشركاء في النسب. ويعود هذا التعقيد إلى الصرامة في الإعتماد على مسافة قرب وبعد رابطة الدم في تحديد علاقة النسب داخل العائلة، الأسرة أو العشيرة الواحدة. وهذا يتعلق بمبادئ الأخلاق الصينية ونظامها الهرمي. ويمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال مبدأين:
أولا، الفرق بين "الداخل والخارج": تصنف العلاقة بين الأب والأم والزوج والزوجة على مبدأ "الداخل والخارج" (أو القريب والغريب)، فمسافة القرب والبعد لعائلة الزوجة وعائلة الزوج ليست نفسها. فالجدّ والجدّة من جانب الأم يصنّفان في جهة "الخارج"، والجدّ والجدّة من جانب الأب، يصنّفان في جهة "الداخل".
اما المبدأ الثاني، فهو البناء الهرمي للعائلة الصينية، حيث تُولي الثقافة الصينية أهمية كبيرة للتراتبية بين الإخوة من الكبير نحو الصغير، لحفظ المقامات دون خلط.
هذان المبدآن يظهران بشكل جلي أثناء مراسم العزاء. فمن جهة، تُعبر الملابس التي يرتديها كل شخص من العشيرة أثناء مراسم العزاء عن مسافة القرب والبعد بينه وبين المتوفي. ومن جهة ثانية، تجسد هذه الملابس وحدة وتضامن العائلة، الأسرة والعشيرة أثناء هذا الكرب.
وإذا توسعنا أكثر في مفهوم العائلة، الأسرة والعشيرة في الثقافة الصينية، يمكن أن نصل إلى مفهوم الدولة. وهذا المفهوم يختلف عن الدولة في الثقافة الغربية، فسواء كلمة" country" أو" state" ، لايحتويان على معنى "العائلة". أما في اللغة الصينية فيتكون مفهوم الدولة من مُصطلحين: " الدولة"+ "العائلة". ويمكن تغيير ترتيب الكلمتين، لكن المعنى يبقى نفسه. لأن الدولة في الثقافة الصينية تمثل "العائلة الكبيرة"، والعائلة تمثل"الدولة الصغيرة". لذلك فإن التراتبية العمودية "من الأعلى إلى الأسفل"، والتراتبية الأفقية "من الداخل إلى الخارج" شديدة الصرامة على مستوى الدولة أيضا. وقد تأسست نظريات كونفوشيوس على هذا الأساس.
ثالثا، عالم الإيمان: "ثلاثة أديان في واحد"
هناك مقولة شائعة في الثقافة الصينية تصف البنية الإيمانية والأخلاقية لدى الصينيين، تقول: "الكونفوشيوسية لإصلاح "العالم"، والبوذية لإصلاح الروح والطاوية لإصلاح البدن". وتعني أن الكونفوشيوسية تهتم بإدارة المجتمع، والبوذية تُعنى بتهذيب الروح، في حين تصلح الطاوية لعلاج البدن. وهو مايمثل مزيجا من هذه الأديان الثلاثة. وبالنظر من الزاوية التاريخية، لم يكن للبوذية والطاوية إطلاقية و قدسية في الثقافة الصينية. لذلك، نادرا مايشهد التاريخ الصيني جدالات أو حروبا دينية. وهذه إحدى الخصائص التي تميز الثقافة الصينية.
رابعا، العناصر الخمسة في "اليين يانغ"
تطرح فلسفة "اليين يانغ" تصورا لفهم طريقة عمل الكون والموجودات. من خلال 5 عناصر أساسية، هي: الماء والخشب والنار والتراب والمعدن. وتقوم على مبدأين أساسييْن. أولا، مبدأ التوالد والتكابح: المعدن يلد الماء، والماء يلد الخشب، والخشب يلد النار، والنار تلد التراب، والتراب يلد المعدن، وهذه دورة التوالد. أما دورة التكابح، فهي: المعدن يكبح الخشب، والخشب يكبح التراب، والتراب يكبح الماء، والماء يكبح النار، والنار تكبح المعدن.
أما المبدأ الثاني فيتمثل في إختراق "علاقة التوالد والتكابح" بين العناصر الخمسة لجميع الأشياء والكائنات، لتشكل منظومة تدور وفقها نواميس حياة الموجودات. ويعد ربط مختلف الموجودات داخل شبكة "اليين يانغ" الكبيرة، أساس معرفة وفهم الصينيين القدامى للكون. طبعا بات الناس يشككون في هذا التصور بعد دراستهم للعلوم، لكن في العصور القديمة، كان هذا أساس الصينيين في فهم العالم. وعلى هذا الأساس نشأت جملة من المعارف والتقنيات.
خامسا، إختلاف التصور الصيني القديم للعالم عن بقية الأمم
كان هناك تصور لدى الصينيين القدامى بأن "السماء دائرية والأرض مربّعة". حيث تكون السماء مقبّبة مثل قبعة الفلاح الصيني، والأرض مربّعة مثل رقعة الويتشي (شبيهة برقة الشطرنج). أما مركز السماء، فكانوا يظنون بأنه في أقصى نقطة بالشمال. وبالنسبة لرصد الظواهر الفلكية، ترائى للصينين بأن السماء تدور والأرض ثابتة. أما عن مركز الأرض، فقد ظن الصينيون القدامى أن مدينة لوه يانغ هي مركز الأرض. وهذا يعود إلى أن تشكل هذا الطقم من الأفكار كان في حقبة تشو الشرقية، وحينها كانت مدينة لوه يانغ عاصمة الإمبراطورية.
ثم يُقسم هذا التصور الأرض إلى 5 دوائر تحيط بالمركز (عاصمة الإمبراطوية). تفصل بين كل دائرة 500 ميل. ومن ثمّ فإن قطر الأرض حسب هذا التصور يبلغ 5000 ميل.
خلقت هذه المركزية الجغرافية مركزية ثقافية أيضا، حيث نشأ مفهوم ثقافي يرى بأن سكان المركز هم الأكثر تحضرا، وكلّما ابتعدنا عن المركز قلّ مستوى التحضر. وعلى هذا الأساس تم تقسيم سكان الشمال والجنوب والشرق والغرب.
لقد ظهر مفهوم "الصيني والأجنبي" في وقت مبكر في تاريخ الصين. وهو يرى بأن الصينيون "متحضرون" في حين أن الأقاليم المجاورة "برابرة". لذا على المتحضر أن يعلّم البربري، ومن هنا نشأ "مفهوم العالم" لدى الصينين (天下)، والذي يعني حرفيا "ماتحت السماء"، وهو عالم متخيل ثمثل فيه الصين المركز.
هذا التصور لم يتحول تدريجيا إلى مفهو ثقافي لديه بيئتة الانتروبولوجية والجغرافية فحسب، بل إنعكس كذلك على النظام السياسي، فظهر مايُعرف بـنظام" الولاء الإمبراطوري" . حيث تقوم الأقوام التي تنضوي تحت "العالم الصيني" سنويا، بتقديم الهدايا لإمبراطور الصين للحفاظ على علاقات الود وكسب رضاه.
هذه العناصر الخمسة تكون البنية التي قامت عليها الثقافة الصينية لقومية الهان. لكن يجب التأكيد أيضا، على أن الصين الحديثة هي خليط من القوميات، وحتى قومية الهان نفسها هي خليط عرقي وثقافي. حيث ظلت العديد من الأقوام الأجنبية تدخل الصين بإستمرار منذ حقبة أسرة تشينغ وهان، كما إستوعبت قومية الهان العديد من الأقوام الأخرى. فالثقافة الصينية هي ثقافة متعددة وليست ثقافية أحادية.
تاريخيا، كانت الصين دائما ما "تتغير داخل التقاليد"، في إطار منظومة ثقافة وتقاليد الهان. فسواء البوذية أوالأديان الثلاثة القديمة ( الزرادشتية، النيستورية، المانية)، أو الإسلام أو لاحقا المسيحية الكاثوليكية، كلها لم تمثل تحديا حقيقيا للمكانة المركزية لثقافة الهان في الصين.
لذلك كان التغيير يحدث من خلال "تعديل" أو "تأقلم" أو "إصلاح" داخل التقاليد. لكن وصولا إلى حقبة تشينغ المنشورية (آخر الأسر الحاكمة للصين)، ومع قدوم الأساطيل الحربية الغربية، وجدت الصين نفسها ملزمة على "التغيير خارج التقاليد"، وإختراق سور الثقافة القديمة. ومن ثم، بدأت الثقافة الصينية تواجه تحدّيات البقاء.
كانت الفترة الفاصلة بين 1895 و1919 أهم مرحلة في تغير الفكر والثقافة الصينية. وخلال هذه الفترة، يمكن ملاحظة العديد من التغيرات: مثلا الإمبراطور تحول إلى رئيس، إمبراطورية تشينغ المنشورية تحولت إلى جمهورية الصين (جمهورية القوميات الخمس) ؛ إلغاء نظام الإمتحانات الإمبراطوريه وتعويضه بالجامعات؛ تأسيس البرلمان والأحزاب السياسية؛ قصّ ضفيرة الشعر الطويلة وإرتداء البدلات الأجنبية؛ الإنحناء تحول إلى المصافحة اليدوية؛ تحرر المرأة، المساواة بين الجنسين؛ هدم الخرافة وعبادة العلم؛ فكّ القيود والخروج عن العائلة، وغيرها من المظاهر الأخرى.
إنقلبت التقاليد رأسا على عقب، وبات الصينيون يشعرون بالقلق والتوتر إزاء غزو القوى الأجنبية. وأصبح من الصعب ملاحظة تلك الثقة في النفس والسكينة اللتان كانتا سائدتان في الماضي. ولم تعد الأناقة والحلْم والروية أشياء مناسبة للعصر. وهكذا شهدت الخصائص الخمسة المميزة للثقافة الصينية تغيرات كبيرة.
أولا، حركة الثقافة الجديدة " 4 مايو" وإعتماد العاميّة: رغم أن الصينيين مازالوا يكتبون الهانزي إلى الآن، لكن اللغة الصينية شهدت تغيرا كبيرا. ولاشك في أن إستعمال العامية يعد قرارا صائبا، بإمكانه أن ينشر التعليم ويرفع المستوى الثقافي للشعب. غير أن هذا التغيير تسبّب في قطيعة بين الثقافة الجديدة والقديمة. فالفصحى القديمة كانت تمثّل لغة المثقفين، وتعبر على اللباقة والأدب والإحترام والثقافة.
أولا، تسبب إحلال اللغة العامية مكان الفصحى، في فقدان تراتبية الأناقة والشعبوية في التعبير، والفرق بين الذوق والمبتذل في اللغة. مثلا، فقدت كتابة الرسائل في الوقت الحالي الروح الثقافية التي كانت تميزها في الماضي.
ثانيا، أدمجت اللغة الصينية عددا كبيرا من المصطلحات الغربية الحديثة. ومن خلال ملاحظة هذه المصطلحات الجديدة داخل اللغة الصينية فحسب، يمكن للقارئ أن يعرف مدى عمق التغيير الذي شهدته الصين.
ثالثا، تبسيط كتابة اللغة الصينية في خمسينات القرن الماضي، باعد بين الكتابة الحالية والرموز الأصلية القديمة.
ورغم أن الرموز المبسطة تسهل مهمة التعلم، لكن إبتعاد الرمز عن "شكله" الأصلي، يجعله أكثر فأكثر شبيها بالرموز المجرّدة، في حين أن الكتابة القديمة كانت تحتوي على عملية تفكير وتعبير.
ثانيا، تغير المفاهيم المتعلقة بالعائلة: رغم أن التقاليد العائلية والتنظيمات الأسرية القديمة لم تعد موجودة سوى في الأرياف الصينية، وبعض أوساط المجتمع الصيني الحديث، لكن الصينيون مازالوا إلى الآن يُعلون من شأن العائلة وعلاقات القرابة وطاعة كبار السن. لكن حركة الحضرنة السريعة، وتصاغر حجم العائلة، والحركة السكانية قد أحدثت تغيرا كبيرا على العلاقات بين العائلة والمجتمع والدولة.
فقد إختفت العلاقات التضامنية بين الأقارب والجيران وأهل الحي والأسرة العريضة في الحياة الحديثة. لذا فإن النظريات الكونفوشيوسية حول علاقة العائلة بالدولة قد بدأت تفقد أسسها الإجتماعية تدريجيا.
ثالثا، تآكل البنية الإيمانية القديمة: مع تتالي الصدمات التي تعرضت لها الأفكار الكونفوشيوية من الفكر الغربي منذ أواخر حقبة تشينغ. باتت الأفكار الكونفوشيوسية شيئا فشيئا غير قادرة على تحمّل المهام الثقيلة للأيديولوجية السياسية. كما تراجعت البوذية والطاوية من العالم الروحي والمعرفي والإيماني بعد إخفاقها في الصمود أمام الفكر العلمي. وغدت الثقافة أكثر فأكثر علمانية ونظامية. وهو مامثّل أزمة عالم الإيمان القديم.
رابعا، عناصر اليين يانغ: مع إنتشار روح العلم والمنطق، باتت نظرية اليين يانغ غير قادرة على تفسير العالم بشكل كامل. وانحصر وجودها في الطب الصيني، الطالع (روح المكان) والمكملات الغذائية. في حين باتت تعيش في هامش منظومة المعارف الحديثة.
خامسا، تغير التصور الصيني للعالم: لم يؤدي الغزو الغربي للشرق في أواخر حقبة أسرة تشينغ، إلى تدمير التصور الصيني للعالم ونظام "الولاء الإمبراطوري" فحسب، بل أعاد تحديد علاقات الصين مع مختلف دول العالم. ولم يعد التصور القديم للكون والعالم واقعيا. وهذه التغيرات التي شهدتها الثقافة الصينية، عكست بأنها قد دخلت مرحلة إعادة معرفة وفهم وتجديد الذات.
الفرق بين "الثقافة" و"الحضارة"
يرى عالم الإجتماع الألماني نوربرت إلياس أن الثقافة هي الشيء الذي يجعل أمة ما تختلف عن أمة أخرى. فهي البُعد الذي يُعبر عن ذات الأمة وخصائصها، ولاتخضع لتصنيف الأعلى والأدنى.
أما "الحضارة، فهي البعد الذي يجعل الفوارق بين الأمم تتناقص، وتُعبر عن السلوكات والنجاحات العامة لدى البشرية. وبعبارة أخرى، إن "الثقافة" هي الخاصية التي تجعل الأمم مختلفة بعضها عن بعض، أما "الحضارة" فهي الرابط الذي يقرب بين الأمم.
من جهة ثانية، يُشير إلياس إلى أن الثقافة ليست شيئا يتم تعلمه بالضرورة. لأن الإنسان يمكنه الحصول على خصائصه الشخصية والروحية بشكل طبيعي من خلال الممارسة الحياتية. أم "الحضارة"، فهي شيء لايمكن الحصول عليه إلا بالتعلم. لذلك، ترتبط الحضارة دائما بـ "التربية"، "المعرفة"، "القواعد" وغيرها من الأشياء.
يمكن تشبيه الفرق بين "الثقافة" و"الحضارة" بما يلي: يمكننا دائما أن نأخذ الكرة ونلعب مثلما نشاء، لكن حينما ندخل ملعب كرة السلّة فلايمكننا أن نلمس الكرة بالقدمين. وفوق ملعب كرة القدم لايمكن لمس الكرة باليدين، فحينما يلعب عدد من الناس معا، تصبح هناك قواعد. فالثقافة هي ما يمنحك الحرية الكاملة في أن تُعبر عن ذاتك كما تشاء، أما الحضارة فتفرض عليك جملة من الحدود والقواعد.
إذا فهمنا "الحضارة" و"الثقافة" من هذه الزاوية، يمكننا ألا نخشى العولمة والنظام الحديث، ولانخشى على تآكل ثقافتنا. لأن المشكلة تكمن في كيفية حفاظنا على خصوصية ثقافتنا وتقاليدنا داخل حضارة وقواعد عامة.
هنا، عليّ أن أضيف أيضا، بأن كل ثقافات الأمم متعصبة لنفسها، وتُظهر مقاومة لـ "الحضارة " المختلفة. لكن أيضا، لا شك في أن الحضارة تنخر الثقافة بإستمرار، وعلينا أن نعترف بحقيقة أن "الحضارة" دائما ماتكون عند المتقدم، وتُظهر دائما ميلا للإستعمار والتوسع. من هنا، يمكننا القول بأن "الثقافة" تتعلق بالتقاليد، وهي ظاهرة خاصة، أما الحضارة فتتعلق بالمستقبل، وهي عامة ومشتركة. فكيف يمكن التوفيق بين هاتين الظاهرتين؟
نحن اليوم، دائما مانتحدث عن خصائص الثقافة الصينية. لذا علينا التفكير في كيفية الحفاظ على خصوصية ثقافتنا وسط قواعد حضارية عامة. في ذات الوقت، كيف يمكن فهم عقلانية هذه الثقافة داخل التاريخ، وفي عصر الحضارة الحديثة.
مثلا في الوقت الذي نقبل فيه العلم ونعجب به، كيف يمكن أن نُبدي تعاطفا مع عناصر اليين يانغ الخمسة، وفهمها في إطارها التاريخي؟
وفي الوقت الذي نقبل فيه القانون والنظام العاميْن، كيف يمكن أن نفهم تاريخية الأخلاق العائلية والأسرية و"العائلة الدولة" ومعايير الفضيلة في الثقافة التقليدية.
وكيف يمكن أن نتعامل برفق مع الأديان القديمة، في الوقت الذي نقبل فيه الحضارة الحديثة؟ وكيف يمكن تَفهُّم التصور الصيني القديم للعالم، في الوقت الذي نقبل فيه الدولة الحديثة؟
بصفتي مؤرخ، أعتقد دائما أنه سواء تعلق الامر بالثقافة أو بالحضارة، علينا دائما أن ننظر إليهما داخل التاريخ، ونعترف بأن التاريخ متغير لاقرار له. وعلينا دائما أن نلتفت إلى الوراء للنظر إلى الثقافة، وننظر إلى المستقبل لنرى الحضارة. ونتعامل بتعاطف مع الإثنين.
(هذا المقال هو ورقة مقالة لمحاضرة قدّمها غيه دجاو قوانغ بمكتبة شنغهاي، تحت عنوان "ماهي الثقافة الصينية؟")