د. حسن حنفي د. حسن حنفي

ماذا تعني الثقافة الوطنية؟

الثقافة الوطنية هي المكون الرئيسي لمزاج أي شعب يستمد منها تصوراته للعالم وبواعثه على السلوك، تظهر سماتها في الأفراد وفي الشعوب على حد سواء، في الوعي الفردي والوعي الاجتماعي والتاريخيوقد حاول البعض ربط الثقافات الوطنية بأنماط الروحالإنسانية وبنماذج مسبقة تتحكم في بنيتهافهناك روح «أبوللو» العاقل في مقابل روح «ديونيزيوس» الانفعالي، كما هو معروف عند نيتشهومع ذلك فهي تعبير عن أمزجة الشعوب وطبائعها وتاريخها على نحو استنباطي أوليوقد يسميها البعض الثقافة «القومية»بدلًا من «الوطنية»، وهي أيضاً تسمية صحيحةفارتباط الثقافة بالوطن ارتباطها بالقومإذ لا وطن بلا قوم، ولا قوم بلا وطنوسيرد اللفظان مترادفينإلا أن لفظ «القومية» قد يدل على مذهب معين للقوميين، في حين أن لفظ «الوطنية» يشارك فيه الوطنيون جميعاًقوميين أو ليبراليين، ماركسيين أو إسلاميين.

 

وتتكون الثقافة الوطنية من عناصر عديدة في مقدمتها الدين والتراث الديني والِحكم والأمثال العامية، وسير الإبطال والملاحم الشعبية وشواهد من تاريخ البطولة وحكمة الشعوبفما زال الدين أهم روافدها لا العلم، ولا التقنية ولا التصنيع، ولا حتى الإصلاحاتالاجتماعية والإنجازات الثورية والخدمات العامة الأخيرةوالتراث مخزون نفسي في ثقافة الجماهير، لا يختلف في ذلك التراث الإسلامي عن التراث المسيحي أو اليهوديفهناك الدين الشعبي، الدين الإشراقي الشعائري، كأساس واحد ومنبع متصل لها.

أما الوافد المعاصر من مظاهر الحداثة كالعلم والتقنية والتصنيع وأساليب الحياة الحديثة، فهي حديثة العهد على الثقافة الوطنية، محاصرة في طبقة محددة، وإن اتسع أثرها في باقي الطبقات الشعبية بعد هجرة العمالة المصرية إلى الخارج وزيادة قدرتها على الشراءبعد العودة خاصة فيما يتعلق بالأجهزة الكهربائية الحديثة.

ويحدث ذلك أثراً مضادّاً تحت وطأة التغريب، برفع الثقافة الوطنية نحو رافدها الأول وهو الدين الموروثوبالإضافة إلى هذين المصدرين الرئيسيين للثقافة الوطنية، الموروث والوافد، هناك أيضاً الواقع المباشر الذي منه نشأت بتشابكه، وتضارب مصالحه، واختلافطبقاته، وصراع قواهالثقافة الوطنية إذن على مفترق طرق ثلاثةالموروث الديني، والوافد العلماني، والواقع الحي المباشر.

وإن إعادة بناء الثقافة الوطنية في البلاد النامية تحل إشكالها الرئيسي، وهو ازدواجية الثقافة بين المحافظة الموروثة والعلمانية الوافدة ثم انعزال كل منهما عن الواقع الحي للناس، لمصلحة الجماهير وتحديات العصروهي أساس التحديث الشامل سواء التغيرالاجتماعي، أو نقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرىإن إعادة بناء الثقافة الوطنية هي جزء من تحديث المجتمعات وضمان لاستمرار ثورتها حتى لا تصاب بالردة أو النكوص، أو الانقلاب إلى ثورة مضادة.

ما أصعب وما أطول من تغيير المجتمعات بإعادة بناء الثقافة الوطنية، بحيث تكون هي الضامنة والحارسة لاستمرار الثورة والإبقاء على التغييرات الاجتماعية ومكاسب الثورة حتى لو تغيرت القيادة الثوريةوتلك أهم قضية لدى الشعوب النامية على خلاف الحال لدىالشعوب المتقدمةفما زالت الشعوب النامية تمر بمرحلة انتقال من التقليد إلى الحداثة، من القديم إلى الجديد، من التراث إلى المعاصرةومازال الاختيار لم يحسم بعد بين كافة البدائلالقطع مع القديم باسم الجديد، ورفض الجديد دفاعاً عن القديم، والجمع بين الاثنينعن طريق التجاور والتمييز بين المستويين، والجمع بين الاثنين عن طريق تطوير القديم من داخله بأساليب الحداثة المطوية فيهوهو النمط المطروح أمامها الذي يلاقي موافقة الأغلبية، نمط «التغيير من خلال التواصل».

أما النموذج الغربي، فإنه يقوم على الانقطاع بين التراث والتجديد، بين التقاليد والتحرر، بين القديم والجديد، وبقدر ما يتم نقد القديم ورفضه يتم التحرر منه وإبداع الجديد، وبقدر ما يتم التخلص من التراث والافتكاك من إساره يتم إطلاق قيد العقل وممارسة حريةالفكر واستقلاله، وبقدر التخلص من اللاهوت القديم يتم اكتشاف الطبيعة والإنسان، وبقدر ما يتم الخلاص من المعارف الإلهية المعطاة سلفاً تتم الثقة بالعقل وبقدرته على اكتشاف مناهج جديدة، توصله إلى العلم، وتساعده على كشف الحقائقوبقدر ما يتخلص منالشرائع الكنسية وسلطانها يتم اكتشاف الشرائع الإنسانية والقانون الوضعي.

والثقافة الوطنية هي الأساس الذي منه تخرج الإيديولوجيات السياسيةوإن أي أيديولوجية سياسية ترد من خارج الثقافة الوطنية يسهل حصارها وعزلها، ثم استبعادهاوقد استطاعت الثقافة الوطنية كأي إيديولوجيات سياسية وهويات قومية تثوير الشعوبفقدكان الأدب الروسي هو الوعاء الذي منه خرجت الثورة الروسية، وكانت دوماً حلقات الأدباء نواة تخرج منها حلقات الثواركما كانت الثورة الفرنسية ابنة حركة التنويروكانت الثورة الأميركية امتداداً للتنوير الفرنسي والتنوير الأميركي عند «توماس بين».

وقد استطاعت الثقافة الوطنية في تاريخنا الحديث أن تكون المهد الذي منه خرجت حركاتنا الإصلاحية وثوراتنا الحديثةالثقافة الوطنية هي جمع بين العلم والمواطنة، وهما شرطان لتقدم كل شعبفلا علم بلا التزام قومي، ولا التزام قومي بلا علم.

وإذا كانت الثقافة الوطنية تشمل كل «البناء القومي» من قيم وسلوك، فإنها تكوّن مزاج الفرد وروح الشعب وتراث التاريخوبصرف النظر عن المدارس السلوكية ومدى إبرازها عامل الثقافات في سلوك الأفراد والجماعات، فإنه مما لاشك فيه أن الثقافة هي أحدمكونات السلوكوليست المسألة فقهية صرفة ومماحكات نظرية لا حل لها، فيها قولان، ولا مخرج منهماأيهما أسبق البناء التحتي أم البناء الفوقي؟ أيهما علة وأيهما معلول؟ إن وضع الإشكال على هذا النحو من أجل حل أحادي الطرف وضع غير علمي وحل غيرعلمي، خاضع لعقلية الثنائية المتعارضة التي سادت الوعي الأوروبي، تجزئة الحقيقة الواحدة إلى عدة عوامل متنافرة متضاربة ثم رد الكل إلى أحد أجزائهإن الواقع كل متشابك، جدل بين العلل، أثر متبادل بين البنيتينوهو ما يؤكده التفسير الجدليويتم الجدل بينالبنيتين في طرف ثالث، وهو الشعور الفردي والجماعي، الوعي الإنساني والحضاريومن هنا تأتي أهمية ظاهريات هيجل وظاهريات هوسرل.

والثقافة الوطنية ليست وحدها متجانسة تعبر عن نسق واحد، عن مذهب محكم، بل قد تضم مكونات عديدة متنافرة ومتناقضة، بل الإيجاب والسلب، فيها الأمثال العامية والحكم الشعبية، بل والعقائد المذهبية التي تحث على العمل والجهد، وترفض الظلم والقمعوالاستكانة والخنوع، وفيها أمثلة مضادة تدعو إلى ترك الأمور تسيّرها المقادير، وإلى الاستسلام للمكتوبويرجع هذا التناقض إلى أن مكونات الثقافة الوطنية إفراز لعديد من الظروف المتباينة، وتعبير عن جميع الطبقات الاجتماعية بمصالحها المتعارضةويكونالتحدي الأعظم هو كيف يمكن تحييد الجوانب السلبية.

وأخيراً، تعبر الثقافات الوطنية عن خصوصيات الشعوب ضد ما يسمى بالثقافة العالمية التي غالباً ما تكون في العادة الثقافة الغربية، وضد شمولية العلم الذي هو في العادة أيضاً العلم الغربي نظراً لأن الثقافة المعاصرة والعلم الحديث قد ظهرا في عصر الريادةالأوروبية في القرون الخمسة الأخيرةوبالتالي فهي قادرة على حماية الشعوب من هيمنة ثقافة على أخرى.

إن الثقافة الواحدة الشاملة، والعلم الواحد الشامل، إنما هو أسطورة تروجها الثقافة الرائدة والعلم الحديث من أجل الهيمنة الثقافية، ونقل العلم من المركز إلى المحيطكل ثقافة هي ثقافة محلية بالضرورةوكل علم هو أيضاً محلي بالضرورة نظراً لأن العلم هو أحدالأنشطة الذهنية، يعكس البنية الثقافية للحضارة التي ينشأ فيها هذا العلمإن خصوصيات الثقافة الوطنية لا تعني وجود جزر منعزلة دون رابط بينها أو اتصالفهناك الترجمة والنقل بين الثقافات، وتبادل الألفاظ واستعارتها، وإكمال المعاني ورؤية الأشياءوقد حدثذلك بين الثقافة الإسلامية والثقافة اليونانية والفارسية والهندية القديمة.

كما أن تشابه الأمثال العامية، وترادف حكمة الشعوب التي تخترق كل الثقافات، مما يدل على وجود طبيعة بشرية واحدة وراء الرصيد الإنساني المشتركهناك إذن مستويات للروابط بين الثقافاتمستوى المعاني والماهيات عن طريق الترجمة والنقل والتبادلالحضاري، ومستوى التجارب البشرية المشتركة ووحدة الطبيعة الإنسانية وتجانسها عبر الزمان.

 

■ عن «وجهات نظر»