لماذا لا تزال الماركسيّة موجودة؟
تميل الشعوب أكثر فأكثر للاطلاع على الأفكار اليسارية ومنشوراتها، وليس هذا بالأمر المفاجئ. فالناس تريد أن تعلم سبب الحيف والظلم الذي يحيق بها، وتريد أن تعلم لماذا تُثري أقلية صغيرة جداً على حساب عملها وحياتها. بات الناس يعلمون بأنّ التبرير الرأسمالي الذي يعتمد على الجدارة والعمل الجاد ما هو إلّا كذبة في هذا العصر المطلي بالذهب بينما تنهشه اللامساواة من الداخل.
تعريب وإعداد: عروة درويش
1:
يقوم البعض، أمثال سكوت وينشيب وكيفين هاسيت، بالجدال بأنّ وجود اللامساواة حقيقي في النظام الرأسمالي، لكنّها ليست ضارّة. يقولون بأنّ الرأسمالية إن تركت وشأنها فسوف تجازي الجديرين وسوف تعود بالنفع على الجميع وليس فقط على الرأسماليين.
لسوء حظّ أصحاب هذا الادعاء أنّ جميع المعلومات والإحصاءات تشير إلى خطأ هذه الفكرة بكل بساطة. ويعرض توماس بيكيتي في كتابه الشهير «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» معلومات وإحصاءات لا يمكن دحضها على خطأ فكرة الجدارة التي يتشدّق بها المدافعون غير البريئين عن الرأسمالية.
لكنّ بيكيتي نفسه يقع في الخطأ عندما يعلن بأنّ المال غير ذو أهمية. متناسياً هو وبعض من علقوا على كتابه أن يربطوا بين اللامساواة وبين أسباب عدم السعادة. يقول روس داوذات معلقاً على كتاب بيكيتي بأنّ محاولة إحياء أفكار ماركس لن تنفع لأنّ ما ينقص المجتمعات الرأسمالية المعاصرة ليس انعدام الأمن الاقتصادي، بل: «تآكل الهوية الثقافية – الإيمان والعائلة، والسيادة والمجتمع... وهي صيغ التضامن التي تعطي المعنى لحياة الكثير من البشر. وبغيابها لم يبقى سوى المال ليحلّ مكانها». وتقول ماغي ماكآردل بذات السياق: «اللامساواة لها أثر ضئيل نسبياً على نقص السعادة».
علينا هنا ألا نتسرع بالهجوم على هذه الاستنتاجات، وأن ننظر إلى النواقص في آلية الربط في جوهر هذه المقولات، بغض النظر عن كونها مقولات رأسمالية مستترة أم لا. تشدد هذه المقولات على أنّ إدراك الإمكانات والسعادة البشرية مرتبطُ بالإبداع والفن والعلوم والممارسات الثقافية المتعددة وأشكال التضامن والاجتماع، أكثر من ارتباطه بالعوامل الماديّة.
سيوافق ماركس على ما قيل من كلّ قلبه. لا تنبع القوّة الأخلاقية للماركسيّة من كونها تعري الرأسمالية بشكل منهجي، بل أيضاً من إصرارها على عدم قدرة الرأسمالية على خلق الظروف اللازمة للازدهار الإنساني. لم تساوي أعمال ماركس بين الرفاه المادي والسعادة، لكنّه علم بأنّه لا يمكن للسعادة أن توجد دون رفاه مادي.
إنّ جريمة الرأسمالية هي أنّها تجبر الغالبية العظمى من السكان على أن يبقوا غارقين بانشغالهم بتأمين الاحتياجات الأساسية كالغذاء والسكن والصحّة واكتساب المهارات. إنّها تترك القليل من الوقت لتعزيز الإبداع والتواصل الاجتماعي التي يتوق إليه البشر.
والرأسمالية ظالمة لأنّها تقوم بذلك في عصر الوفرة. هنالك ما يكفي من الموارد لضمان الرضا المادي الأساسي للجميع، لكنّ الرأسماليّة تقضي بأنّ لا ينتفع الجميع بهذه الموارد. وعلاوة على ذلك، فإنّ العمل الشاق للمحرومين هو الذي أنتج تلك الموارد.
لقد أثبت ماركس أنّه لا يوجد أيّ مبرر أخلاقي أو عملي لتركيز الثروة بيد أقليّة صغيرة، ويظهر بيكيتي بأنّ الأمر لا يزال على حاله. لذلك عندما يتمنطق أيديولوجيو اليمين بالحاجة إلى "الحب والفرح والصداقة" أو "أشكال التضامن التي تعطي معنى للحياة"، فعليهم ألّا ينسوا بأنّ هذه الرؤى الاجتماعية تحديداً ستكون دوماً تحت التهديد داخل المنظومة الرأسمالية.
2:
يُلاحظ قرب بعض الآراء «اليساريّة» من العداء اليميني للماركسيّة. يقرّ تيموثي شانك بأنّ الأزمات الاقتصادية أعادت الاهتمام بالماركسيّة، لكنّه يرى الحاجة إمّا «لإعادة التفكير في الماركسية أو تخطيها». والسبب الرئيسي في هذا النقد الهزيل، كما يعبر عنه قائله، هو أنّ المفاهيم الماركسية تفتقر إلى التعقيد.
بينما يقوم شانك بنبذ الحركة العمّالية لأنّها تبدو «عالقة في التراجع الدائم»، فإنّه يصب جام غضبه على أتباع الماركسية الشباب من أبناء القرن الجديد. إنّه يسخر من هؤلاء الناشطين بأنّهم: "يستخدمون المجازات الماركسيّة التقليدية"، ويستغلون التسهيلات التكنولوجية لنشر رسالتهم السياسيّة.
يقول شانك بأنّ التزامهم خفيف وبأنّه "من السهل مشاركته عبر منشور على الفيس بوك ربّما". لذلك يسخر منهم بسبب إيمانهم القديم بإمكانية «إعادة إحياء الماركسية»، ولتماهيهم مع وسائل الإعلام الجديدة. المشكلة هنا أنّ شانك لم ينزل مع علياء سخريته أبداً ليشرح لنا سبب كون الماركسية (أو الإنترنت) مشكلة.
ليس شانك هو أوّل من يوجه أصابع الاتهام للراديكاليين الشباب لعدم اهتمامهم «بالغموض وعدم اليقين والاختلاف»، ولتجاهل «المصادفة» في الحياة الاجتماعية وما شابه ذلك. لقد باتت هذه الكلمات رائجة ليستخدمها اليسار الزائف كهراوات يضرب بها الماركسيين.
ربّما السبب في عدم إعجاب المفكرين الراديكاليين الشباب بالمناشدات التي تحملهم على الاعتراف «بالغموض والمصادفة» هو أنّ حياتهم تعدّ درساً عن بعض الحقائق التي لا لبس فيها عن كيفيّة عمل الرأسماليّة.
حتّى الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد باتوا يقرون بأنّ ركود الأجور له علاقة بالهجوم على النقابات، وبأنّ اضمحلال الحركة العمّالية قد سرّع بدوره التحوّل نحو سياسات اليمين، وبأنّ هذا بدوره قد أدّى إلى إزالة الدعم الاجتماعي القليل الذي قدمته الدولة للفقراء، وهي اللحظة التي قاد فيها الجنون لتحقيق الربح السريع الاقتصاد إلى التداعي والانهيار، وهو الأمر الذي ردّت الدول عليه بتحميل العامّة الثمن وتسليم ترليونات الدولارات إلى المصارف.
لم يكن هناك أيّ مصادفة أو غموض في كلّ ما حدث. لقد كانت نتيجة يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق عبر حرب الطبقات التي نقلت السطوة السياسية بشكل ثابت إلى النخب. هذا هو شكل الرأسمالية عندما يصبح الصراع الطبقي قبيحاً.
عندما يعلن التقدميون عن نفسهم بأنّهم من أتباع «الغموض والمصادفة» في مثل هذه الأوقات، فليس من المفاجئ تحوّل الناس إلى الماركسية من أجل بعض الوضوح.
بالتأكيد لدى الماركسية ما تقدمه ليس في وقت الأزمات وحسب. لقد كان حجاج الماركسية الرئيسي أنّ الأزمات تقوم فقط بإضفاء المزيد من الوضوح على عدم الاستقرار وعلى ديناميات السلطة التي تبنى عليها الرأسماليّة. إن فترات الأزمات لا تخلق التناقضات الاقتصادية والسياسية للرأسمالية، بل هي نتيجة حتمية لها. ويُظهر التركيز الفاحش للثروة في العقدين السابقين لأزمة عام 2008 بأنّه لا يوجد آلية مستدامة لتخصيص الموارد، ناهيك عن العدل في تخصيصها، داخل الرأسماليّة.