«العقل زينة»
وجاء في رسالة سهل بن هارون في كتاب البخلاء للجاحظ قبل ألف ومئتي عام تقريباً ما يلي: (قد قال الأحنف بن قيس، يا معشر بني تميم ! لا تسرعوا إلى الفتنة، فإن أسرع الناس إلى القتال،
أقلهم حياء من الفرار، وقد كانوا يقولون إذا أردت أن ترى العيوب جمة فتأمل ناساً عياباً، وليسوا صحاحاً، ومن أعيب العيب أن تعيب ما ليس بعيب). والظريف الممتع في هذا المقطع أن الحكيم الخطيب في هذه الواقعة كان يتحدث عن فتنة وصراع بين عشيرتين عربيتين متنفذتين كانتا من أعمدة البلاط العباسي، وكان ينصح المتخاصمين آنذاك باللجوء للعقل والمنطق في معالجة الصراع القائم بينهما، وإلى الاحتكام إلى الحجة المقنعة عند نقد الخصم والهجوم عليه. هذا الكلام تراث غابر، ولكن ما قولكم في أطراف الصراع الدائر اليوم في سورية؟ ومن أي تراث تستمد كل هذا الفهم والفهلوة؟ عامان ونيف مرا، وقلما سمع الشعب السوري كلمة مفيدة من هنا أوهناك، لا شيء إلا الشتم المقذع أو المدح الرخيص، حتى وصلنا الى لحظة لم نعد نسمع خلالها سوى النعيق الطائفي الوسخ، في حين غابت كل معالم العقل والمنطق في تبرير حجج هذا الصراع العقيم المدمر، ولم تظهر أية بوادر لبرنامج سياسي مقنع لأي من الطرفين المتشددين سواء في النظام والمعارضة اللاوطنية، والراجح أنها لن تظهر أبداً عند هذه القوى، ولكن التعويل الحقيقي يبقى على وعي شعبنا وقواه الحية، لأنه من غير المعقول أن تظل المركبة مجرورة بعقول هؤلاء حتى النهاية، هذه العقول التي أنصفتها بحق كلمات ذلك الموال الثائرللشاعر ميشيل طراد: «يا ملوك الظلم يا عروش الحرير.. مش هيك شرع الكون بكرا رح يصير.. ولا هيك رح بتضل مركبة الدنى مشلولة.. بتجرها عقول الحمير..».