عن سيكولوجيا المثقف السوري

عن سيكولوجيا المثقف السوري


يُعامَل المثقف في مجتمعاتنا كشخص مختلف. فبعض الناس يتناوله بتهكم، إلى حدّ اعتباره موضوعاً للسخرية والنكتة! فيما يرفع البعض الآخر من شأنه باعتباره مرجعية يُركن إلى رأيها في حل المشكلات أو تحليل أوضاع اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، وذلك تبعاً لثقافة المجتمع المحلي الذي ينتمي إليه هذا المثقف.

وفي الأزمة السورية، بات يُسمع رأيه حتى في الشؤون العسكرية ــ الأمنية والجيوستراتيجية! من نافلة القول، أن الإعلام أدى دوراً حاسماً في تغيير وظيفة المثقف ومنحه وظائف وأدواراً لا علاقة له بها، في تواطؤ مريب بين المؤسسة الإعلامية والمثقف. هذه المؤسسة التي استطاعت تعويم وجوه «ثقافية» انتشلتها من «قاع الوسط الثقافي السوري» لتعمل فيها تلميعاً بالمعنى الحرفي للكلمة.
لكن المشكلة لا تقتصر على من جرى تلميعهم بسرعة للحاجة المستعجلة، بل تمتد لتشمل طيفاً كبيراً من المثقفين المعروفين، الذين أسهموا في إغناء الحركة الثقافية في سوريا.
جميعنا يعرف شخصاً أو أشخاصاً مثقفين وأذكياء، يتبنون أفكاراً ومواقف تتناقض مع مستوى ذكائهم ومعرفتهم. وربما كانت الأزمة السورية منجماً خصباً لدراسة هذه الحالات التي أضحت ظاهرة اجتماعية نفسية ثقافية.
أحد الأشياء التي تعلمتها في المنطق، هي أنّ البراعة في الجدال يمكن ببساطة أن تستخدم لإخضاع الآخرين، حتى ولو كان الشخص البارع على خطأ قاتل. فإذا ما تعلّم المرء بعض الحيل في المنطق والنقاش، فإن بإمكانه أن يكابر بالمحسوس ويترافع مدافعاً حتى عن السخف! وإذا كان الأشخاص الذين يجادلون هذا الشخص لا يمتلكون تكتيكات الجدال، أو ليسوا على مستوى غطرسته، فقد يسلمون له بالأمر ويوافقونه على ما يريد (لا نريد أن نصاب بالصداع وتشنج الكولون!).
المشكلة مع المثقفين أنهم متعطشون لأن يكونوا دوماً على صواب وأحياناً يدافعون عن أفكارهم حدّ الاستماتة على أن يعترفوا بأنهم على خطأ، ويغدو البحث عن الحقيقة آخر همهم. وهذا أمر خطير وفي غاية السوء، وخاصةً إذا أخذتهم العزة بالإثم وهم صغار (لنقل لأنهم كانوا مميزين) حيث إنهم ربما بنوا أناهم على افتراض أنهم على صواب، وبالتالي سيدافعون عن سجلهم الكامل من صوابيتهم المختَلَقة حتى الموت. يقع المثقفون في فخ تفضيلهم أن يكونوا على صواب، حتى وإن أقاموا بنيان هذا «الصواب» على الوهم، أو حتى لو نجم عن ذلك بؤس المقربين منهم.
يبقى الأمر كذلك حتى عندما يبرز لهم شخص عنيد وصلب بما يكفي ليعمل على تشريح منطقهم، ولديه من المرونة ما يؤهله لتحمل تعسفهم الفكري المُقَنّع بقناع ناعم يطرحونه أثناء النقاش (مثل: أنت لا تعتقد حقاً بذلك؟ حسناً، لو أنك مُطّلع على تاريخ كذا وقوانين الصراع كذا، لما تلفظت بمثل ما تقول)؛ فإنهم لن يُجبَروا أبداً على مساءلة قدرتهم في الدفاع عن أفكارهم الفاسدة. والفرص في إجبارهم على ذلك نادرة: مدير أو زميل جديد أو زوجة جديدة. بيد أنّه إذا كانت وسواسيتهم في أن يكونوا على صواب شديدة، فإنهم سيضربون بهم عرض الحائط وينبذونهم قبل أن يسائلوهم عن تحيزاتهم وألاعيبهم. قد يكون من السهل على من يدافعون عن أفكار فاسدة أن يغيروا وظائفهم وشريكاتهم وأماكن سكنهم، أكثر من الآخرين بسبب ذلك.
إن دراسة متواضعة في المنطق أو دراسة الفروقات الدقيقة في النقاش، هي إحدى القواعد البسيطة في تعطيل وتعويق أولئك الماهرين في الدفاع عن أفكار فاسدة: فلأنه لا يمكن برهنة خطأهم، لا يجعل منهم مصيبين. معظم خدع المنطق والنقاش تدحض الأسئلة وتصد الهجمات، لكنها تخفق في تثبيت أي مسوّغ حقيقي لفكرة ما.
على سبيل المثال، عندما يخبرك شخص ما بأن خطته لإقامة سوريا ديموقراطية هي الأفضل، لأن أحداً لم يشرح لنا كيف ستخفق، يعني أن ثمة فجوة منطقية في جداله. فلأن أيّ شخص لم يبيّن لنا كيف ستخفق، لا يجعل منها بالضرورة الخطة الأفضل. فقد يكون لمقاربات أخرى محتملة، الفرصة ذاتها.
هناك فكرة شائعة، هي أنّه إذا اجتمع عدد من المثقفين في مكان ما، فإنهم سيتوصلون جملةً إلى أفكار مثمرة وذكية! ثمة ما يمكن تسميتها قوة ضغط الأقران التي تشتغل على السيكولوجيا، لا على الذكاء والعقل. ونحن ككائنات اجتماعية عرضة للتأثر الشديد للكيفية التي يتصرف فيها الناس حولنا، كذلك إن كيفية اتخاذ القرار الداخلي لدينا تتباين بشدة تبعاً للبيئة التي نعيش فيها راهناً. يعني ذلك، كلما زاد التماثل في تفكير مجموعة من الأشخاص، تضيق مجال الأفكار التي ستتأملها هذه المجموعة بحرية. وكلما كان لدى المجموعة الانفتاح الذهني والقدرة على الخلق والشجاعة، كانت حصيلة الأفكار التي يستكشفونها أكثر اتساعاً. المشكلة في سوريا، هي أن تجمعات المثقفين تتكون من أشخاص لديهم ذات الخلفيات والحيثيات والتجارب المشتركة، بحيث إنهم سيشعرون بالراحة فقط في نقاش الأفكار الآمنة التي تلائم تلك المقيدات والكوابح.
لذلك، فإنه إذا كان لنا أن نجعل المثقفين، مثقفين حقيقيين، فعلينا السعي إلى تعددية الأفكار. وهذا لن يتحقق إلا بجمع الناس من خلفيات وآراء وفلسفات ومعتقدات مختلفة إلى طاولة حوار. على أن يكون اجتماعهم على النتائج التي ينبغي الوصول إليها، لا على الوسائل أو المقاربات التي يُتوقّعُ منهم استخدامها (أي التركيز على العنب لا على قتل الناطور). إنها الطريقة الوحيدة لنضمن أن يتلقى الأشخاص الموجودون أفضل الأفكار من المثقفين بحرية. ثمة أمر في غاية الأهمية، هو القيام بالعمل الصائب في الوقت المناسب. فهناك أشخاص يطبقون معرفتهم وذكاءهم بطريقة لا تخدم ما يحاولون الوصول إليه. فليس من الحكمة مثلاً أن تسأل أصدقاءك عن المطعم الذي يفضلونه وأنت تقود سيارتك التي تعطلت فيها المكابح وتسير على طريق مغطى بالجليد! قد يبدو المثال مستفزّاً، ولكن ذلك يحصل بتواتر يفوق توقعنا بأشكال مختلفة.
النقطة الأساسية هنا، هي أنه ليس ثمة مقدار من الثقافة والذكاء، يمكن أن يساعد شخصاً يعمل بمثابرة على المستوى الخطأ من المشكلة. ولا بد من وجود شخص لديه الحكمة ليربّت كتفه ويقول له: «آه، حسناً... الحفرة التي تحفرها لغرس الوردة جميلة ومناسبة من حيث القياس، لكنك تحفر في أرض جارك!».
مما نعرف من التطور، يبدو واضحاً أننا أحياء بفضل قدرتنا الموروثة على التفكير بسرعة والاستجابة للتغير. والمخلوقات الحية الناجية، لمعظم تاريخ كوكبنا، عاشت مباراة قصيرة الأمد. وفقط إذا تمكنا من الفرار من الحيوانات الضارية، والقبض على طريدتنا، سيكون لدينا ترف القلق بشأن الغد. وهذا يعني أننا سنكون أفضل عندما نقلق بشأن المسائل القصيرة الأمد وحلها. وحتى عندما ندرك مسألة مهمة طويلة الأمد نحتاج للتخطيط لها، فإننا بسهولة نتشتت عن الأفكار العميقة بالأشياء المباشرة والفورية كالطعام أو الجنس. وحالما نتشتت، من النادر أن نعود إلى المسائل الطويلة الأمد، التي سُحِبنا منها بسبب تعسُّف التفكير القصير الأمد.
التفكير القصير الأمد يعني الاعتقاد بأن معلومتين (يعني معلومة أخيرة وما قبلها) كافيتان لإنشاء مزاعم تتعلق بالمستقبل! وهذا ما أسمّيه الدفاع الزائف عن وجهة النظر. منذ نحو سنة جرى سجال بيني وبين صحفي لبناني يكتب في جريدة «الحياة» عن جدوى الإضراب في سوريا. نرجسيته (كمثقف) لم تسمح له إلا بالقول: اقرأ روزا لوكسمبورغ. أجبته: قرأتها، وعرفت أنّ إضراب العمال في ألمانيا لا يمكن سحبه ميكانيكياً على الدعوة لإضراب موظفي الدولة في سوريا، حيث لا توجد نقابة للموظفين أصلاً! ماذا كان ردّه؟ ببساطة أورد لي مثلاً آخر يتعلق بتجربة أوروبية أخرى! مثالان كفيلان بإقناع من يكتفون بجمع معلومتين لتكهن المستقبل، بل والجزم بسيرورة التاريخ! الصحفي المذكور حذفني من قائمة أصدقائه بالطبع! وهذه مشكلة أخرى لا وقت لنقاشها هنا.
أمثلة لا عدّ لها نواجهها يومياً على صفحات التواصل الاجتماعي وخاصة «الفيسبوك» الحافلة بطيف من «المثقفين»، والبعض منهم صار له من المريدين ما يتجاوز الآلاف. أليس هذا إثباتاً لصحة آرائهم؟!
المشكلة هي أنّ بعض المثقفين، وخاصة الذين يمتلكون «نواقل حركة أولية» سريعة، يستخدمون سرعتهم في التفكير لهزيمة الآخرين. فهم يقفزون بين الافتراضات بخفة، ويرمون بالمصطلحات في كل اتجاه مع نتف من المنطق والتجارب بسرعة كافية لتجعل معظم الناس يتشوشون ويستسلمون. وعندما لا ينفع ذلك، يخرجون سلاح الصلف المقرون باستصغار الآخرين ويستخدمون ما يقع تحت أيديهم من تكتيكات ومناورات زائفة تحت الطلب. أنا على يقين بأنّ كل منا لديه الكثير من القصص مع مثقفين يدافعون عن أفكار فاسدة، ولعلنا نحن، وأنا ضمناً، صرفنا الكثير من الوقت ونحن نجادل في أشياء أسفنا عليها لاحقاً.
فالمثقفون قد يتبعون قادة حمقى (بهدف الثناء والمديح أو الترقية)، وقد يتبعون غضبهم صوب مطارح غبية، وقد يُدَرّبون أو يُعلَّمون على الحُمْق، وقد يرِثون الأفكار السيئة من آبائهم بدافع التقليد. لكن كلّ ذلك لا يحول دون رغبتهم الشديدة في أن يكونوا على صواب دوماً. بيد أنهم، في سعيهم المحموم هذا، يأخذون في طريقهم الحقيقة ويدهسونها، فهي في نهاية المطاف ليست ذات شأن أمام «قضيتهم» الشخصية.