الموت في السياق السوري

الموت في السياق السوري

في العدد الخامس عشر للكتاب السنوي «باحثات» الذي يصدر عن تجمّع الباحثات اللبنانيات، والذي حمل عنوان: التهميش في المجتمعات العربيةـ كبحاً وإطلاقاً

، استوقفتني دراسة أعدتها الباحثتان: نادرة شلهوب ـ غيكفوركيان وسهاد طاهر ناشف، لما حملت هذه الدراسة من معانٍ عميقة، وما استطاعت نبشه من المكنون الباطن للوجدان الجمعي الفلسطيني بحمولته التاريخية والاجتماعية والثقافية ومن طموحات وإصرار على العيش ومحاربة الإبادة الممنهجة من قبل سلطات الاحتلال، وبما استنبطت الدراسة من دلالات لرحلة الموت في تكريس الماضي والحاضر والحلم والمقاومة وترسيخ الهوية. وربما لأنها زجّتني بقوة في مواجهة الموت السوري لأتأمله وأتأمل الجسد السوري الميت وما يحفر الواقع عليه من رسائل يتبادلها طرفان، وربما أكثر، يتنازعان على السيادة والحكم.
في جملة وردت في الدراسة لجوديت فيلفر: «إن الجسد هو موقع لنحت خطاب وقوة النظام المسيطر»، تناولت الباحثتان رحلة الجسد الفلسطيني في سياق الموت في القدس، وهذه المساحة الزمنية من لحظة موته إلى مثواه حيث يُوارى الثرى، والفاعلية التي تحدثها هذه الحالة التي أطلقت عليها الباحثتان عنواناً كثيف المعنى: «حياتية الموت»، بما يحمل من تناقض صارخ بين وجودين باجتماعهما يمنحان الحالة الفلسطينية أبعاداً إنسانية خاصة، حيث يمنح الموت فاعلية الحياة عند شعب يُحشر في خانة التهميش، إذ أنهم حُمّلوا الهوية الفلسطينية، لكنهم معرَّفون على أساس أنهم سكان وليسوا مواطنين، وتصبح سيرورة جسد الميت دعوة لتحقيق الحلم الجمعي من خلال تحقيق حلم الفرد، الميت الحي.
وترى الباحثتان أن الكتابة والصياغة من جديد لجسد الميت الفلسطيني هي كتابة المجتمع الفلسطيني، وذلك اعتماداً على الإجراءات التي تقوم بها سلطة الاحتلال بحيث ترسخ سيادتها على الجسد الميت بواسطتها وتخط كتابتها التي هي علمية ـ سياسية ـ اجتماعية باللحظة ذاتها، أي إن الهوية الفلسطينية تستمر بعد الموت. وعلى الكتابة الفلسطينية التي تجري بمستويات عدة علمية سياسية واجتماعية ودينية ووطنية.
جسد، وخطابان، واحد يحاول القول من خلاله إنه السيد على هذه الأرض، وآخر يحاول مقاومة هذه المقولة بعمل وطني يحقق حلمه وحلم الميت.
قامت الكاتبتان بإنجاز دراستهما اعتماداً على قصص من حياة جثث وُثّقت من خلال بحث ميداني كيفي إثنوغرافي، أي وفق «أسلوب البحث الكيفي»، وهذا أدّى إلى طرح السؤال المركزي، وهو: كيف تتشكّل سيرورة حياة الميت وحياة أقربائه بين إعلان الموت والوصول إلى المثوى الأخير في القدس وضواحيها. الحالة السورية بحاضرها الموّار بكل أشكال العنف لا تسمح بإجراء دراسة ميدانية على الأقل في الوقت الحالي، لكن ما نراه على الشاشات من صور وإفادات وتقارير ميدانية، حتى لو كان الإعلام الذي يعرضها أو يتبناها يفتقر إلى الموضوعية والحيادية، كذلك ما نطلع عليه في مواقع التواصل الاجتماعي، وما نسمعه من حكايات وقصص الناس، من دون أن نهمل المبالغة والحالات العاطفية التي تتدخّل في صياغة الحكايات، «فالميت، بالرغم من عدم حركته، يحرك ما حوله من مشاعر وأحاسيس وذكريات تاريخية تُعاد صياغتها أثناء حدث الموت»، كل هذا كفيل بأن يجعلنا نقرأ الميت السوري ونستقرئ الموت السوري في صنفه الفريد: القتل.
في سوريا هناك موت جماعي، مجازر جماعية، تلقى فيها جثث السوريين مكشوفة في العراء موشومة بخط القاتل. طلقات لا تخطئ في الرأس أو العنق، أو رؤوس مقطوعة بالسيف أو السكين. قاتلان في واحد، توأمان، ينتميان إلى الأرض نفسها، لكنهما فاجعة هذه الأرض، الأخوة الأعداء. وإذا كانت الهوية تستمرّ حتى بعد الموت، كما جاء في البحث، فإن كتابة كل طرف من أطراف القتل في سوريا تصرّ على إيصال الرسالة، ليس فقط رسالة القوة والسعي إلى السيطرة، بل رسالة موجّهة إلى أهل القتيل، إلى انتمائه الذي بات في سوريا لا يقبل تصنيفاً غير التصنيف المذهبي: نظام أقلوي ـ أغلبية ثائرة. حتى الموت السوري حرف الثورة عن مسارها.
لم تستطع عقود ولا قرون من الزمن أن تنقّي الثقافة المتغلغلة في اللاوعي الجمعي. ثقافة الجسد كميدان للسطوة والسيطرة والامتلاك. الجسد الذي يُقتل مرتين، يُقتل قتلاً معنوياً بوحشية أكبر من القتل المادي، يُقتل باغتصابه، بانتهاكه، ثم بتقطيعه والتمثيل به. والقاتلان يوقعان على الجسد السوري بالأحرف الأولى لاسميهما.
كل طرف بامتلاكه مشروعية الشهادة ولقب الشهيد يُسقط عن القتيل الآخر صفة الإنسانية، يحوله إلى حيوان ضارٍ، ليشحذ همم المقاتلين أكثر، ليكون لقتلهم معنى سامياً، مرة باسم الوطن، ومرة باسم العقيدة والدين.
مراسم الدفن والطقوس المرافقة تكرس الأهداف الأخرى، تجدّد حكاية الشهادة، أموات سوريا يستحضرون التاريخ ويبعثرونه ويُعيدون ترتيبه لصناعة مستقبل يبدأ من هذا الحاضر الرهيب. تاريخ يُستدعى من طبقات زمنية متباينة منذ عشرات القرون حتى العقود الأخيرة إلى اللحظة الراهنة، ويُعاد فرز هذا التاريخ على أجساد الأموات وبين طقوس العزاء.
أما الضحايا الذين يحصدون من مأمنهم، ويخطفهم القتل من تفاصيل حياتهم الصغيرة، فأولئك لهم أجساد بيضاء كقلوبهم، خُطّت فوقها رسائل الوحشية العالمية، رسائل غياب الضمير العالمي، رسائل إلى من بقي من أهلهم على قيد الحياة، بأن سوريا هي الغاية الأكبر، هي الجسد الذي سيمهره من يربح معركة الموت.
في سوريا يُحمل نعش الميت المكفن بعلم الثورة على الأكتاف ويدور في مركز دائرة تتسع وتتالى حلقاتها من جمهور المشيّعين يهتفون الأهازيج التي انبثقت من رحم الآلام، جموع تدور حدّ النشوة الروحية كما في الرقص الصوفي، يحمدون الله ويعاهدون الميت بمواصلة طريق الشهادة وتحقيق حلمه، ثم «الله أكبر» بحنجرة واحدة. وفي سوريا أيضاً يُحمل النعش المكفن بعلم البلاد الحالي على الأكتاف في مسيرته إلى مدفنه على وقع الموسيقى الجنائزية، وتنصب خيم العزاء التي لا تخلو طيلة فترة العزاء من أفراد ومجموعات يمثلون جهات رسمية، ورجال دين أيضاً، يقدمون تعازيهم ويشحذون همم الحاضرين من أجل الشهادة دفاعاً عن وطن تنتهكه المؤامرات، فيُحمد الله أيضاً على الشهادة، ويَعدون الميت فوق تربته بأن يواصلوا الطريق ويحققوا حلمه.
الجسد السوري الميت، مرة يُكفّن بعلم البلاد الحالي، ومرة بعلم الثورة، لكنه يدفن تحت التراب نفسه. تراب سوريا التي باتت مهددة بتقطيع أوصالها لكتابة السطر الأخير على الجسد السوري. عذراً من الكاتبتين العزيزتين، هذه سوريا وليست القدس، لذلك قد يختلف الموت في سياق القدس عنه في السياق السوري، والشعب السوري المهمش على مدى عقود يهمش بعضُه البعضَ الآخر اليوم.

 

بفلم: سوسن جميل حسن

السفير