أنسي الحاج، لم تأخذك سَنة ولا نوم...
على المسافة التي كان لا بدّ أن تنكمش بيننا قليلاً ونلتقي مذنّباً أعمى بنجمٍ موغلٍ بالتوهج، تحالف الوقت وفائض الحمولة. لم أظنّ، يوم تواعدنا أن نلتقي في مكتبٍ في الجريدة، أنك كنت تعني لقاءً أشبه بخطاب على صفحةٍ في الجريدة، وأنّ الحديث الذي كنت أشحذ له اللغة والأسئلة، سيبقى لغةً وأسئلة من غير أن تنبس ولو ببنت شفة. أصعب الامتحانات، هي ليست تلك التي تنتهي بالخسران، بل هي تلك التي نعدّ لها المشرفيّة والعوالي ولا تنتهي بنتائج محدّدة، وأشقى من السقوط في الحفرة ألا نعرف أين نحن تماماً منها. كان يكفي أن ترمش لي بعينين سماويتين لأحدّد موقفي من الشعر، أو أن تدير ظهرك لأصبح نجاراً لخزائن كتبك، أو أن تغمرني، ربما، لكي أصبح ناياً إلى الأبد.
الكتابة في هذه الحالة إذاً، هي وهنٌ على وهن، أو ربما هي وهمٌ على وهم. بين الورّاق والورقة ثمّة أكثر من معضلة، إذ كيف تذهب وحدها، من كاتبها، إليك؟ وهو الذي تكبّد عناء كتابتها بيدٍ ثقيلةٍ كالغياب، لشدّة ما أثقلتْ أصابعَها «الخواتمُ». أو كيف يترك أطفالَ المعاني أن يقطعوا وحدهم شارع المعرفة. لكأنك تؤكّد مجدّداً أنّ القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر... وهنا أسأل: هل يحمل الصوتُ الفكرة؟ وهل الكلمات محمولةٌ بمعانيها في المجال الفاصل بين طرفي التخاطب؟ والجواب طبعاً لا. لأنها لن تثير شيئاً في من لا يتقن لغة الصوت. لأن الضوء الذي بفضله نرى اللوحة لا يحمل معنى اللوحة ولا «ميتالونها». لذا، لقلبك فضل الكلام وليس لي، وعلى جسر حلمك تجد المعاني طريقها المؤدّية، ولا خوف على التلقّي إذا ما كان ثمة خوفٌ على موعد اللقاء.
أنسي الحاج، أيها الرسول بشِعرِك الجميل حتى الينابيع، قبل مدادك كانت أرض اللغة بلا أنهار، والشعر، عزف على وترٍ يتيم. أنت، بيدين من نار ونور، ولّدت من صخر التكرار الأصم، عذب الأمل، ومن الماضي الذي ينتحل صفة الحاضر دائماً، والمستعد لأن يظلّ قابعاً على صدر اللغة حتى ما لا نهاية، معنىً جديداً للزمن. وجعلت الشعر آلةً فضلى لنعيش الحياة ببطء شديد، بطء يجعلنا نرى الجمال بشكل أوضح، ونستمتع برؤية التفاصيل، التي كانت تدوسها سرعة الإيقاع، على دهشتها ومجّانيتها. ثم إنك، على هذه الآلة، الشعر، مددت أصابعك العشرين أوتاراً، فلم يعد الإيقاع خُلّبياً، شتّاءً يومضُ ولا يمطر. نعزف الشعر، على طريقتك، لندرك أننا ما زلنا على قيد الخلق والتجدّد، وأنّ في الصوت وطناً لا أنبياء فيه سوى الحب، وأنّ مياه أحلامنا لمّا تأسن، و»لنْ».
الشاعر، يؤنث هذا العالم، لأنّ عالماً لا يؤنّث لا يعوّل عليه. أنسي الحاج، الأنقى بيننا كما يقول أدونيس، شاعر يعوّل عليه العالم ليكونَ أجمل. يكتب عن النهار وكأنه يبتكر امرأة، ويكتب عن الليل وكأنه يمارس الحب. هو عاشق لكل جماليات الحياة منذ النظرة الأولى. الغيب أنثاه المستحيلة، والغيبوبة، غضبه البربري على عالم أعمى، أو اعتراض منه على امرأةٍ تولّي ظهرها للأمل. وهو الآن، بعينيه المغمضتين، يرى الأشياء بشفافية مذهلة، حتى إذا مرّت أمام عينيه امرأة، لاستطاع أن يرى قلبها الذي ينبض داخلها مثل لؤلؤة في الماء. وقد يتيح لها، لو أراد، أن تخلد في قصيدة يعلّقها لها ببعض كلمات ومخطف على باب من أبواب الشعر الصافي.
الشعراء نوافذ مقوّسة مثل بحيرة ضوء في عين غزال، نوافذ مفتوحة كالفكرةِ، لا ترفع أيديها في كفِّ الريحِ ولا تستسلمُ للجدرانِ، لا ينفك أحدٌ منهم عن الاستشراف. كلّما ضاقت بهم دائرة المعرفة ـــ الضوء، تلصّصوا على الغيب ليجعلوا الكون أوسع. قبل الشعر كان العالم فحمة شبه منطفئة ربما. أنسي الحاج، هذا الحلم المكثّف والسريع، المتوغّل أبداً بالمجهول والذي قال أكثر من مرةٍ إنه يعتقد بالدخيلاء، واللاوعي، والمغناطيس، والعقل الباطن، والحلم، والخيال، والمدهش، والعجيب، والسحر والهذيان، والصدفة، وكل ما هو مشبوه فوق الواقع، كان يصرّح إذاً عن أدواته في الكشف، عن الطرق التي يدخل يده من خلالها في جسد الضوء ليقرأ ما يضمرُ نردُ الوقت، ومن ثم ليكتب «ماضي الأيام الآتية» بلغة نيئة، عارية من البلاغة والبهلوانية، مضغوطة كثقب أسود، ومتوهّجة كمقلة عاشقة، هارباً من البيت الشعري إلى الشعر... فهو، بهذا المعنى، ما زال من أجمل النوافذ، الممتلئة بالحرية والرؤيا. أجمل النوافذ تلك التي لا يملكها بيت.
في المرحلة الفاصلة بين الولادة والموت، المسمّاة اصطلاحاً بالحياة، ثمّة تأرجح دائم بين الخلق والتدمير، بين الإقامة والسفر. الأنبياء وحدهم كانوا الممسكين بناصية التوازن، بعض الأنبياء شعراء أيضاً. أنسي الحاج أشعل النار في شجر الغابات اليابسة وحطّم أصنام النصوص المعادة المكرورة، بفأس الـ «لن»، وهو بذلك لم يكن يؤسس لمرحلة شعرية جديدة فحسب بل لعالم عربي مختلف، عالم يعتقد أن السلف لم يقل كلّ شيء، وأن المعرفة لانهائية وأن ما في الكون من قصائد فلكية وغرابة التلاشي والولادة يفتح إلى أفق جديد. كان يصغي إلى موسيقى الأجرام السماوية، بالدهشة ذاتها التي يصغي فيها إلى فيروز، جنّته الصوتية التي كلّما تنفست تفتّح نهدٌ في صدر فتاة. لذلك لا أرى المجتمع الحر إلا قصيدة نثر بريشة أنسي الحاج، هكذا ينحسر الدم المراق، ويصبح العالم مكاناً أفضل تحت برد السماوات.
الغياب، لعبتك الفضلى لجعل الكلمات أكثر سخونةً، والأنوثة مرآة الطفولة المستمرّة. أراك، مطبقاً جفنيك على الأسرار التي لم تقلها بعد، كَشفتين مطبقتين على شفة حبيب غامض وسريع الغياب، يحاول الرحيلُ أن يتزيّن لك بما يرضيك، لعلّك تكون رفيق الأبد. وكلّنا يعرف، أنك لم تمسك بيد الرحيل إلا حين أتاك على صورة امرأة، لا لتشبع رغبة بك، بل لتورث الإنسانية موتاً أقل وحشيّة مما هو عليه في هذا العالم. وكل هذا السكون، إتاحة لمياه اللغة أن تستقر قليلاً، قليلاً قبل أن تضرب جهة المستحيل برحيلك ليكون النص الأخير، نصّ بحجم حياة قد تتكرّر في المنظور من السنوات القادمة، حياة ستتعب الطبيعة كثيراً حتى تنتج بما يحاكي عبقريتها النافذة.
المصدر: السفير