حرائق المكتبات.. حرقة مزمنة
أعادت الحادثة المروعة مؤخرا والمتعلقة بحريق إحدى المكتبات العامة في روسيا، الذي استمر لأكثر من 17 ساعة ودمر الآلاف من الوثائق النادرة، إلى الذاكرة محنة لوعة حرائق المكتبات التي لا تندمل جراحها بالتقادم.. إنها الحرائق ذات الضريبة الثقافية التي لا تعوض أبدا.
فالخسائر التي تلم بالذاكرة الفكرية والرصيد الثقافي والموروث العلمي ودرر أمهات الكتب والمخطوطات، خسائر لا تعوض وكسور لا تجبر أبدا، تجربة لا تكرر مطلقا مثلها مثل الموت والولادة لا تعاد مرتين.. فما أكلته ألسنة اللهب من الكنوز الفكرية المطمورة في تلك المكتبات الطاعنة في السن يمضي رمادا دون رجعة.
وقد تختلف مسببات تلك الحرائق، فمنها ما يكون صدفة أو لخطأ بشري ما أو خلل في مولد كهربائي أو بفعل عمل إجرامي مدبر، لكن النتيجة واحدة، ومفادها خسارة فادحة لا يمكن لملمة تداعياتها ولا مخلفاتها ولا يمكن التعاطي معها إلا بكثير من الحسرة واللوعة وعض الأصابع.
حرائق مدبرة
إطعام العلم للنار، جريمة بشعة جدا ومصاب جلل لا يفقه وطأته إلا من يقدر العلم ويعلم قيمة تلك المكتبات والكتب العتيقة الهرمة، وربما يكون عنوان هذا المصاب ملخصا في معاني الحسرة فقط إذا جاء هذا الحريق صدفة أو لخلل ما لا يمت بصلة للمكائد، لكن هذا المصاب يعانق معاني اللوعة إذا تبين بالكاشف أنه فعل متعمد وإعدام للعلم ونيل من الثقافة في وضح النهار. وهذا ما حدث مؤخرا وما تناقلته وسائل بخصوص إقدام عناصر تنظيم داعش على حرق مئات الكتب الموجودة في المكتبات الخاصة والجامعية في مدينة الموصل أمام جموع الناس.
كتب ومخطوطات يعود تاريخها إلى أوائل القرن العشرين وفترة الحكم العثماني لتزيد اللوعة أكثر بترجيح عديد شهود العيان أن تكون عمليات الحرق تلك غطاء لنقل التحف والآثار العراقية إلى سوريا وبيعها عبر "مافيات" تهريب التراث.
فما دمر في المكتبة المركزية من مجموعات يشمل الصحف العراقية التي يعود تاريخها إلى أوائل القرن العشرين، والخرائط والكتب من الإمبراطورية العثمانية، ومجموعات كتب قدمتها نحو 100 من العائلات الراسخة في الموصل.
عمليات إبادة الكتب حرقا هذه كررها التنظيم في عدة أماكن منها مكتبات جامعة الموصل ومتحف الموصل والمكتبة المركزية الحكومية والمكتبة الإسلامية ومكتبات الكنائس والمساجد القديمة.
والحصيلة أضرار جسيمة بشكل خاص للمحفوظات في مكتبة إسلامية ، وفي مكتبة الكنيسة اللاتينية البالغ عمرها 265 سنة، وفي دير الآباء الدومينيكان، ومكتبة متحف الموصل مع الأعمال التي يعود تاريخها إلى 5000 سنة قبل الميلاد.
ومازالت صورة المجمع العلمي بالقاهرة ماثلة في الذاكرة الجماعية للناس بعد تعرضه لحريق خلال مصادمات بين محتجين وقوات الجيش في ديسمبر الماضي.
هذا المجمع الذي أسسه نابليون بونابرت عام 1798 والذي يضم نحو 200 ألف كتاب ودورية ووثيقة تعتبر من أكثر الكتابات شمولا عن الحضارة المصرية القديمة. وقد أتت النار على آلاف الكتب في الحريق، بينما أدت محاولات فريق الإطفاء لإخماد النيران إلى إصابة العديد من الكتب والوثائق الأخرى بالبلل.
وتتالى القصص واللوعات الفكرية المزمنة، حيث واسى عديدون عبر صفحات الإنترنت والإعلام الأب إبراهيم سروج صاحب مكتبة السائح النفيسة بطرابلس القديمة بعدما أضرم مجهولون النار في مكتبته العريقة بمدينة طرابلس شمالي لبنان والتي تضم نحو 80 ألف كتاب.
وأتلف الحريق ثلثي محتويات مكتبة "السائح"، التي يملكها قس مسيحي، بينما أتلفت مياه فرق الإطفاء بقية الكتب.
وكانت المكتبة العريقة تضم كتبا إسلامية ومصاحف. وتقع في قلب طرابلس، ثاني أكبر المدن اللبنانية وهي إحدى معالم هويتها الثقافية والحضارية.
حرائق في الذاكرة
لم يخل التاريخ من سجل حافل بلوعات حرائق الكتب والمكتبات، ومن أشهر حرائق المكتبات في التاريخ ما حدث في سنة 335 قبل الميلاد، حيث قام الإسكندر الأكبر بحرق مكتبة برسيبولس وقيل إنّه كان فيها عشرة آلاف مخطوطة.
وكما حدث في سنة 270 قبل الميلاد، فقد قام الإمبراطور الصيني تسي شن هوانغ بإحراق جميع الكتب العلمية والتاريخيّة الصينية، وقيل إنّ عددها كان مئة ألف مخطوطة.
وفي السنة الأولى بعد الميلاد أحرق الإمبراطور الروماني أغسطس كلّ الكتب الغريبة على الرومانيين, ومصدرها الهند والتبت ومصر الفرعونيّة وكان عددها ألفي كتاب.
وفي سنة 54 ميلادية أمر القدّيس بولس بإحراق جميع الكتب الموجودة في مدينة أفسوس. أما في سنة 296 أمر الإمبراطور دقليانوس بإحراق جميع الكتب والمخطوطات الإغريقية والفرعونية الموجودة في البلاد.
وبنهاية القرن الثالث قام الحكام المسيحيّون بإحراق جميع مكتبات أفسوس التي احتوت على الآلاف من الكتب والمراجع النادرة. وفي سنة 510 هاجمت الجماهير مكتبة روما وأتلفوا كل ما احتوته من كتب ومخطوطات مهمّة تعد بعشرات الآلاف. أما بالقرن السادس عشر فقد قام الأرشيدوق دييغو دي لاندا بحرق كل مكتبات المكسيك القديمة.
وفي القرن 18 هبط الكاهن سيكار إلى مصر، وراح يجوب البلاد ويشتري المخطوطات النادرة من الأهالي ثمّ يحرقها، بقصد القضاء على كل العلوم المعادية للدين.
وفي سنة 1790م قامت محاكم التفتيش بإحراق جميع أعمال المخترع البرتغالي جيسماو، الذي توصل لصناعة أول طائرة فيما نقل التاريخ المكتوب، بالإضافة إلى ما وصل به في الكيمياء.
تركة من الخسائر والحرائق تضاف إلى تمّ تدميره ونهبه في الحروب النابوليونية في أوروبا. ناهيك عما تم تدميره وإحراقه في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
حرائق تاريخية بكل ما في كلمة من معنى علّمت في الذاكرة الجماعية لأهل العلم وأحباء الكلمة المقروءة، ما تنفك تتأجج حرقتها كلما أضيف لحزمة هذه الخسائر حريق جديد يجدد الألم والمصاب ويعظم الضريبة التي ندفعها من تركاتنا الثقافية تحت سياط اللهب.
المصدر: سكاي نيوز