حكواتية تُجدّد هذا الفن
الكرسي العالي الذي يتوسط مقهى النوفرة الدمشقي بات شاغراً اليوم بعد موت «أبو شادي» آخر حكواتي في دمشق؛ فمنذ رحيله قبل ستة أشهر أصبح أعرق مقاهي العاصمة السورية يستقبل زواره من دون إسماعهم سيَر عنترة وعبلة وأبي زيد الهلالي.
إلا ان الفنان سامر عمران في عرضه الأحدث «نبوءة - 22 - 24 كانون الثاني - إنتاج عين للفنون» اختار «مقهى الشام القديمة» المواجه مباشرةً لمقهى «النوفرة» في تحد فني لافت لرجال احتكروا مهمة السرد لقرون طويلة؛ متناولاً سنوات الحرب الأربع في بلاده عبر توريةٍ ذكية أسند فيها «عمران» دور الحكواتي الغائب للفنانة ربا الحلبي؛ لتسرد المرأة هذه المرة حكاية من نوعٍ آخر؛ مبتعدةً عن قرقرة ماء النراجيل وجمر أدخنتها وصيحات أنصار الزير ودياب الغانم. الحكواتية الشابة تلت نبوءاتها المتعددة دامجةً بين التمثيل والترتيل والغناء، مفتتحةً بمقطعٍ مؤثر من «ملحمة السراب» لسعد الله ونوس 1941- 1997» المسرحية التي كانت بمثابة استشراف مبكّر لما سيؤول إليه واقع البلاد، فعلى لسان «مريم» أبرز شخصيات هذه المسرحية وأكثرها إحالةً لشخصية «زرقاء اليمامة» في التراث العربي تبدأ «الحلبي» مرافعتها الصادمة بترنيمة «الأم الحزينة» لعذراء تتشح بسوادها؛ فتحكي لجمهورها الصغير عن «عواصف تزمجر في الآفاق، وثعابين تتقيأ فئراناً، وأرضٍ تغرق بدماء أبنائها، وشعبٍ يلمع كالعقيق في آخر السماء». تدفقٌ لاذع وهجاءٌ مرير لما آلت إليه الحال السورية، يتداخل فيه المونولوج المطول لـ «الحلبي» مع عزفٍ منفرد على العود قام كاتب ومخرج العرض نفسه بأدائه، مرتقياً كرسياً عالياً في قاعة داخلية من قاعات المقهى الدمشقي، والذي كان في ما مضى حمّاماً قديماً من تلك الحمّامات الرومانية التي ما زال بعضها يمارس طقوس الحمّام الجماعي. تطهير من نوع آخر أراده «عمران» من آثام شارك الجميع في تراكم أدرانها؛ طقسية لم يتفادها صاحب مسرحية «الحدث السعيد - 2007» منذ بداية العرض، إذ كان على الجمهور أن يرتدي قبل دخوله في هذا «الكثارثيس» الشامي ما يشبه عباءات وزعت عليه، بينما كان لحضور الجوقة بلباسها الأسود، وتردادها لنهايات الجمل التي تقولها الممثلة نوعٌ من الرهبة والجلالة للعبور نحو جُرن الاغتسال من ذنوب جماعية. هكذا تتلو «الحلبي» قصتها الراهنة عن «لينا» الطفلة السورية التي وجدت نفسها في مخيمات اللجوء بعد مقتل أبويها، ودمار حيها بالكامل. من هنا يدمج مخرج «نبوءة» بين عدة مستويات من التلقي، متخلصاً من فضاء مسرح العلبة الإيطالية الذي يصنفه «عمران» على أنه أماكن بديلة، فيما يعتبر أقبية وملاجئ وحدائق وحمّامات ومقاهي المدينة هي الأماكن الأصلية لتقديم فرجته المسرحية؛ فـ «عمران» الذي قدّم بنجاح عرضه «المهاجران - 2008» لثلاث سنوات متتالية في احد الملاجئ الحربية لمدينة دمشق، يعود هذه المرة ليكرر هذه التجربة في دهليز الحارة الشامية، مكرّساً لأدوات عرضٍ وثائقي، مسرحا طبيعيا تكون الإضاءة فيه من جنس الفضاء، فلا بقع ضوئية باذخة، ولا ديكورات كعفشٍ مسرحي ثقيل؛ بل توظيف عالٍ لكل مفردات الفضاء وعبقريته لإنجاز سينوغرافيا من أصل المكان؛ يتحول الممثل تحت ظلالها المتشابكة وأضواء شموعها وسلال جمرها المتقد إلى راوٍ من نوعٍ آخر، حكواتي قادر على مفارقة السيرة والعودة منها نحو شخصيات متنوعة بكل رشاقة وحرفة، إذ بدت «الحلبي» وكأنها تلك «الشهرزاد» السورية التي تقص رؤيتها بشجاعة قبالة سيافها المسرور. تغريب يصير عبره المُخاطب الغائب في عروض المونودراما هو نفسه «الشعب» المشرّد في جهات العالم الأربع؛ وتصير مجمرة الحكواتية وجرار مائها الساخن مطهراً لمن لا يريد أن يسمع من جديد صيحة الحكواتي الميت في مقهى النوفرة المجاور: «لا تصالح»..
المصدر: السفير