جاء موسم صويا الأمريكي والاستيراد الصيني صفر!
نورلانسيد نورلانسيد

جاء موسم صويا الأمريكي والاستيراد الصيني صفر!

في حزيران 2025، وما إن دوّى جرس افتتاح بورصة شيكاغو للعقود الآجلة حتى كان المتعاملون يحدّقون في ذلك «الصفر» على الشاشات - في تقرير فحص الصادرات الصادر عن وزارة الزراعة الأمريكية (USDA)، ظهرت كمية شحن فول الصويا إلى الصين للأسبوع السابق «0.0». هذه هي المرة الأولى منذ عشرين عاماً يَرون فيها رقماً صادماً كهذا خلال موسم التصدير الصيفي.

ترجمة: أوديت الحسين

والأكثر إذهالاً أنّ هذا «الصفر» استمرّ أربعة أسابيع كاملة: من 1 أيار إلى 31 أيار، لم تُبحر سفينة بضائع واحدة عبر المحيط الهادئ باتجاه الموانئ الصينية محمّلة بفول الصويا الأمريكي. وبعد ذلك، نشرت الجمارك الصينية جدولها الشهري المفصّل فحذفت ببساطة خانة «أمريكا»، ولم تُبقِ سوى ملاحظة باردة تقول: «ابتداءً من أيار 2025، لم تعد الصين تستورد فول الصويا من أمريكا».

ومما تلا ذلك، لم يتبدّد هذا الذهول: في تموز وآب وأيلول بقي الرقم البارد «0.0» على حاله، وكأنّ الزمن تجمّد إلى غمامة ثقيلة تخيّم على قلوب مزارعي فول الصويا في أمريكا.

في مثل هذا الوقت من كل عام، كان المزارعون في أمريكا يذهبون إلى الحقول مبتهجين لحصاد فول الصويا، لأن هذا هو توقيت بدء طلبات الشراء من المشترين الصينيين. غير أنّ مشهد هذا العام كان مختلفاً تماماً: تحت «طعنةِ» حرب الرسوم التي شنّها ترامب، تأخر المشترون الصينيون، فإلى أين تمضي محاصيل هذا العام؟

في الجهة الأخرى من الكوكب، في مدينة داليان الصينية، كان اللوح الإلكتروني في مركز تنظيم حركة الميناء يعرض مشهداً آخر تماماً: أعلام البرازيل والأرجنتين وروسيا وإثيوبيا، بل وحتى علم تنزانيا الذي يظهر لأول مرة، تومض بين «رست السفينة» و«بانتظار التحميل». بهذه الحبّة، أعلن فول الصويا في صيف 2025 وداعِ النظام القديم، وكتب السطر الأول في هوامش النظام الجديد.

«المسار الذهني» لتجارة فول الصويا

لطالما كانت تجارة فول الصويا ثقلاً رئيسياً في التجارة الزراعية بين الصين وأمريكا. ومن أجل الاندماج الأفضل في النظام التجاري الدولي الذي كانت تقوده أمريكا آنذاك، التزمت الصين في بروتوكول انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001 بإلغاء إدارة الحصص لواردات فول الصويا، واعتمدت رسماً جمركياً موحّداً بنسبة 3% على استيراده، ثم تصاعدت واردات الصين من فول الصويا الأمريكي بسرعة.

في عام 2016، وصل ترامب إلى الحكم وأطلق حرب الرسوم. وبفعل الرسوم، كانت واردات الصين من فول الصويا الأمريكي قد بلغت 32.58 مليون طن في 2017، لكنها في 2018 هوت إلى 16.64 مليون طن، ثم عادت تدريجياً في السنوات اللاحقة إلى حدود 20 مليون طن. أما نقطة التحوّل الفعلية فكانت في 2022 - بسبب الجائحة - إذ ظهر تصحيح هبوطي ضمن اتجاه نمو الطلب الصيني، وبدأت مصادر أخرى تحلّ محل البائعين الأمريكيين.

يمكن القول: إن «العودة إلى الصفر» لم تكن حادثاً مفاجئاً، بل هي نقطة النهاية لمسار استمر قرابة عشرين عاماً تحوّلت فيه تجارة فول الصويا بين الصين وأمريكا من «تكاملٍ عالٍ» إلى «فكّ ارتباطٍ بنيوي». ففي الفترة 2004–2024، شهدت العلاقة التجارية أربعة منعطفات كبرى، وكان فول الصويا «مناخاً محلياً» داخل «المناخ الكلّي» لذلك التحوّل.

في كانون الأول 2001 انضمّت الصين رسمياً إلى منظمة التجارة العالمية، وفي 2004 ألغت حصص التعرفة على فول الصويا، ممهّدة الطريق لدخول واسع النطاق للفول الأمريكي إلى السوق الصينية. وقد تزامن ذلك مع فترة الانفتاح الصيني الواسع، واستقبال كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية والمواءمة مع الاقتصاد العالمي. لكن هذا الانفتاح، موضوعياً، قدّم تنازلاً عن «فاعلية» السوق المحلية؛ ومن هنا اندلعت «أزمة فول الصويا» المشهورة، إذ انهارت صناعة العصرنة في قطاع الزيوت والحبوب أمام تقلبات أسعار الفول الأمريكي، وانتهى الأمر بأن وقعت الصناعة بأسرها في قبضة رؤوس الأموال الأجنبية.

جاء المنعطف الثاني في 2008، حيث تسبّبت أزمة الرهن العقاري في إعصار مالي أمريكي. ولإنقاذ السوق، نفّذ الاحتياطي الفدرالي ثلاث جولات من التيسير الكمي، فضعُف الدولار، بينما انخفضت عملات بلدان أمريكا الجنوبية، مثل: البرازيل والأرجنتين، فتوسّع المزارعون هناك في الزراعة، وبدأت ميزة السعر تميل لمصلحتهم. وفي 2012، تجاوزت حصة أمريكا الجنوبية لأول مرة حصة أمريكا في واردات الصين من فول الصويا. بقيت الكميات الأمريكية في نطاق ملايين الأطنان، لكن حصتها هبطت إلى أقل من 40%، خلال تلك الفترة برزت إمكانات أمريكا الجنوبية في فول الصويا، لتصير لاحقاً قاعدة «البديل» عن أمريكا.

ثمّ ابتداءً من 2013، انطلقت موجة تمدّن صينية واسعة، ونما معها التوسع في التربية الصناعية والانتقال إلى زيوت طعام أفضل، وارتفاع الطلب على بروتينات دقيق الصويا، فحدثت «موجة توسّع» ثانية لطلب فول الصويا الأمريكي. في موسم 2016/2017 بلغت واردات الصين من الفول الأمريكي رقماً قياسياً بنحو 32 مليون طن، أي 60% من إجمالي صادرات أمريكا منه.

بعد «لقاء شي–ترامب» في 2017، أُطلقت «خطة التعاون الاقتصادي للمئة يوم»، فصار فول الصويا السلعة رقم واحد لدى الصين لمعادلة العجز في تجارة البضائع. وخلال زيارة ترامب للصين جرى توقيع عقد إطار بـ 25 مليون طن، فقفزت عقود فول الصويا الآجلة، وظنّ أهل الصناعة أنّ «العصر الذهبي» قد عاد.

لكن بالتدريج تحوّلت فول الصويا إلى ورقة سياسية في يد ترامب خلال حرب الرسوم؛ وصارت «الطلبية» خطاباً شعبوياً للفوز السياسي لدى المزارعين. وهنا تحديداً جرى دقّ «نعي» صادرات الفول الأمريكي إلى الصين. لقد كان احتكار الفول الأمريكي للسوق الصينية سبب انهيار الصناعة الصينية سابقاً، أما اليوم فقد صار اعتماد أمريكا على السوق الصينية قيوداً تكبّل ورقة الضغط ذاتها.

تلا ذلك المنعطف الرابع. لم يدم الحُسن طويلاً، فلكل ذروة هبوط. خلال فترة ترامب الأولى تصاعدت الحرب على الصين في التكنولوجيا والتجارة، فطُعن المزارعون الأمريكيون الذين كان بوسعهم أن يربحوا كثيراً. في تموز 2018 فرضت الصين رسوماً إضافية بنسبة 25% على الفول الأمريكي، ثم 10% في أيلول، ليصل المجموع إلى 36%، فتلاشت قدرة الفول الأمريكي على المنافسة بعد الرسوم.

في أيار 2019، ومع تعثّر المفاوضات، أوقفت الصين كل مشتريات الفول الجديدة من أمريكا، واتجهت إلى «اكتساح» السوق البرازيلية؛ فبرزت مصادر أمريكا الجنوبية بقوة. في ذلك العام بلغت صادرات البرازيل إلى الصين 57 مليون طن، بزيادة 34%، لتستحوذ على 75% من إجمالي واردات الصين.

وتوالت المصائب: في 2020 عطّلت الجائحة سلاسل التوريد، وانخفض منسوب نهر المسيسيبي، فاختنقت القدرة اللوجستية الأمريكية، وتعذّرت ضمانات التسليم، فواصلت الصين تحوّلها الكبير نحو أمريكا الجنوبية. وحتى عندما رفعت حرب روسيا وأوكرانيا أقساط التأمين في البحر الأسود، لم يستفد الأوروبيون كثيراً، لأن «مفاجأة» البرازيل والأرجنتين كانت قد رسّخت موقعها. وهكذا استمرت حصة الفول الأمريكي في السوق الصينية بالتراجع.
في 2024 بلغت واردات الصين من فول الصويا 105 ملايين طن، لم تحتل أمريكا منها سوى نحو 20 مليون طن.

وفي النصف الأول من 2025، لم تتجاوز واردات الصين من الفول الأمريكي 3 ملايين طن، بينما بلغت من البرازيل 38.5 مليون طن. ومع انطلاق موسم الشراء الصيفي، توقفت شركات الاستيراد الصينية عن شراء الفول الأمريكي؛ وفي ظل الرسوم، وسياسات الشراء المستدام، وخطة «إنعاش فول الصويا» المحلية، و«المزاحمة الرباعية» من المنافس البرازيلي- صار الاستيراد الأمريكي صفراً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1246