لدى أمريكا المال للحرب لكن ليس لإنقاذ مواطنيها من الأعاصير!
مع ارتفاع حصيلة القتلى من جرّاء إعصار هيلين وميلتون الذي ضرب عدداً من الولايات والمدن في الولايات المتحدة، وبحث الناس وسط أنقاض مدنهم المدمّرة عن ناجين، يُعطي صنّاع القرار السياسي الأمريكيون الأولوية للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط والمصالح التجارية في الداخل. هذا ما تحدّثت عنه كلارا دي-كوستا ريدل، الناشطة الماركسيّة الأمريكيّة التي تكتب لعدد من الصحف والمجلات، من أهمّها صحيفة «العَلَم الأحمر» Red Flag التابعة لأكبر تنظيم شعبي/جماهيري في أستراليا «البديل الاشتراكي» Socialist Alternative.
ترجمة: قاسيون
مع تأكيد مقتل أكثر من 220 شخصاً واختفاء المئات، يعدّ إعصار هيلين أعنف إعصارٍ يضرب الولايات المتحدة منذ أن دمّر إعصار كاترينا مدينة نيو أورليانز في عام 2005. وكانت منطقة الآبالاش في ولاية كارولينا الشمالية الأكثر تضرراً من العاصفة، على الرغم من أنّها كانت أقلّ تأثراً بالأعاصير تاريخياً. تسبّبت الأمطار الغزيرة في حدوث فيضانات غير مسبوقة، ابتلعت مدناً بأكملها، وقطعت الكهرباء والمياه، ودمّرت الطرق المؤدية إلى المنطقة.
في بلدة مارشال الصغيرة في ولاية كارولينا الشمالية، وصف المراسل نيكولاس بوغل بوروز قصّة مروّعة بشكل خاص لصحيفة نيويورك تايمز. دمّر الفيضان منزل بروس تيبتون بينما كان لا يزال بداخله. تمكّن الرجل البالغ من العمر 75 عاماً من الإمساك بشجرة وطلب المساعدة. تشبّث بها لمدّة ست ساعات، منتظراً وصول فريق الإنقاذ، بينما كانت عائلته وأصدقاؤه يراقبون بلا حول ولا قوة من ضفّة النهر. لكن لم يكن هناك سوى فريق إنقاذ متطوّع واحد للمقاطعة بأكملها. عندما وصل الفريق أخيراً، أخبروا عائلته أنّ عمليّة الإنقاذ مستحيلة لأنّ الأمر خطير للغاية دون قارب بخاري - حيث لم يكن لديهم سوى طوّافات. في النهاية، استسلم لمياه الفيضان. وما زالوا لم يعثروا على جثته.
إنّ مصير تيبتون ليس سوى قصّة واحدة من مئات القصص المشابهة التي وقعت في أعقاب إعصار هيلين. ولكن هذه المآسي لم تكن نتيجة لظاهرة مناخية غير عاديّة خارجة عن سيطرة أي شخص. بل إنّها تفاقمت بسبب الأولويات التي وضعها نظامٌ مريض لا يكترث بحياة أو رفاه أغلبية الناس.
لقد حذّر علماء المناخ من أنّ تغيّر المناخ يزيد من شدّة الأعاصير في الولايات المتحدة. وقد أصدرت منظمة «المركزيّة للمناخ» Climate Central تقريراً في مايو/أيّار جاء فيه أنّ منطقة الآبالاش تتحمّل عبئاً هائلاً بسبب الفيضانات الحاليّة والمستقبليّة. ومع ذلك، أمضى المجلس التشريعي لولاية كارولينا الشمالية العقد الماضي في عكس تدابير التكيّف مع المناخ وخفض اللوائح البيئيّة لمصلحة المطوّرين العقاريين وقِطّاع الوقود الأحفوري.
في عام 2023، ألغى المشرّعون في الولاية قواعد البناء التي تتطلّب عمليات تفتيش للمنازل الداخليّة للتأكّد من أنّها مبنيّة لتحمّل الرياح العاتية. وقد أيّدَ هذا التغيير «اتحاد بُناة المنازل في ولاية كارولينا الشمالية» North Carolina Home Builders Association، وهي مجموعة من المطوّرين العقاريين. وزعموا أنّه غير ضروري خارج المناطق الساحلية، على الرغم من التوقّعات بأنّ المجتمعات الداخلية تواجه خطراً أكبر من الأعاصير المدمّرة مع تكثيف تغيّر المناخ. كما أيّدت المجموعة نفسها التشريع لفتح الأراضي الرطبة wetlands في الولاية للتنمية العقاريّة. تشبه الأراضي الرطبة الإسفنج في امتصاصها مياه الأمطار وتشكّل جزءاً أساسياً من حواجز تخفيف الفيضانات، ولذلك لا يجب البناء فوقها. بدلاً من ذلك، تم ردّمها حتى يتمكن المطورون من بناء منازل واهية، مما أدّى إلى تدمير الأصول ذاتها التي يمكن أن تدافع ضد الفيضانات المدمّرة التي اجتاحت مساكن الناس في دقائق.
في مجتمع ذي تفكيرٍ منطقيّ، قد تُعتبَر هذه التصرفات متهوّرة للغاية. ولكن في ظلّ الرأسمالية، فإنّ الحدّ من القيود البيئية المكلفة أفضلُ للأعمال التجارية من ضمان سلامة المساكن.
لم يكتفِ المجلس التشريعي للولاية بمنع حماية المجتمعات من العواصف، بل بذل المشرّعون جهوداً إضافيّة لحماية إنتاج الوقود الأحفوري واستخدامه. فقد وجد تقرير صادر عن مشروع سلامة البيئة أنّ الولاية خفّضت التمويل المخصّص لإدارة جودة البيئة بنسبة 35% في العقد الذي بدأ في عام 2008، وهو أحد أكبر التخفيضات التي طرأت على وكالة بيئية تابعة للولاية في ذلك الوقت. وقد حصلت شركات الطاقة مثل شركة «ديوك إنرجي Duke Energy» على صفقات مُربحة حتّى لا تضطرّ إلى معالجة المناطق المتضررّة بمياه الصرف الصحي السامّة من محطّات الطاقة الخاصّة بها بشكل صحيح. ربّما يجب أن يثير الانتباه في هذا الصدد تعيينُ حاكم الولاية في ذلك الوقت، ماكروري Pat McCrory، كواحدٍ من المديرين التنفيذيين في شركة ديوك إنرجي.
أطلق الكوميدي ستيفن كولبيرت Stephen Colbert مازحاً على ولاية كارولينا الشمالية لقب الولاية التي «حظرت تغيّر المناخ». ولكن على الرغم من هذا المزاح، فقد دعمت هذه القوانين أرباح المطورين العقاريين وشركات الوقود الأحفوري، مع إدراكهم التام للمخاطر التي تشكّلها على المجتمعات المحليّة. ومن المرجّح أن يموت الناس بسببها.
إنّ أوجه التشابه بين ما حدث وبين الطريقة التي تعاملت بها حكومة الولايات المتحدة مع إعصار كاترينا في عام 2005 مذهلة. ففي أعقاب إعصار كاترينا، عمدت إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش إلى توسيع التمويل المخصص للحرب التي تشنّها الولايات المتحدة في العراق بدلاً من تقديم الدعم الكافي للمجتمعات المتضررة من الإعصار.
لكنّ رفض التخفيف من أزمة المناخ وحماية المجتمعات ضدّ الأحداث المناخية المتطرفة بشكل متزايد ليس من اختصاص الجمهوريين فقط. اليوم، تعطي الإدارة الديمقراطية أيضاً الأولوية للمصالح الإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط على حماية مواطنيها من العواقب الكارثية لتغيّر المناخ. ففي الوقت نفسه الذي أعلنت فيه الوكالة الفيدرالية لإدارة الطوارئ عن عجز في التمويل قدره 9 مليارات دولار أمريكي مطلوب بشكل عاجل للتعامل مع تداعيات هيلين، قدّمت إدارة بايدن 8.7 مليار دولار أمريكي إضافية كمساعدات «لإسرائيل» لمواصلة الإبادة الجماعية في غزة وغزو لبنان.
في لحظة ما، تستطيع الحكومة الأمريكية أن ترسل حاملات طائرات محمّلة بآلاف الأفراد والمعدّات المتطوّرة إلى الشرق الأوسط. ولكن بروس تيبتون اضطرّ إلى التشبث بشجرة لمدة ست ساعات لإنقاذ حياته، وذلك لأن فريق الإنقاذ التطوعي الوحيد الذي يفتقر إلى الموارد اللازمة كان وحيداً في المقاطعة بأكملها.
لكن من المؤسف أنّ إعصاراً آخر ضرب فلوريدا. ومن الممكن أن يكون أكثر تدميراً من إعصار هيلين. ولكنّ إدارة الطوارئ الفيدرالية تعاني من نقصٍ حادٍّ في الموظفين، مما يعني أن المزيد من الناس قد تتقطّع بهم السبل دون إنقاذ، تماماً كما حدث مع الناس الذين ضربهم إعصار هيلين. وقد أشارت الوكالة إلى أنّ 9% فقط من موظفيها متاحون للانتشار في فلوريدا لأنّها تكافح العديد من الكوارث البيئية الأخرى. والأموال اللازمة لمنع المزيد من الخسائر في الأرواح موجودة، ولكنها تُنفق على تفجير الأطفال الفلسطينيين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1196