شتاء بارد قادم وأصحاب القرار يتحركون: تخفيض جديد لأجور السوريين!

شتاء بارد قادم وأصحاب القرار يتحركون: تخفيض جديد لأجور السوريين!

في لحظة كان فيها الشعب السوري مشدوداً إلى شاشات التلفاز ووسائل الإعلام، يتابع آخر تطورات التصعيد الإقليمي الجاري، جاءت الأخبار من نوع آخر. فوسط هذه الأجواء المشحونة بالتوتر والترقب، جاء قرار حكومي صادم ليزيد من الضغوط على كاهل المواطنين، إذ أعلنت الحكومة السورية عن رفع «مفاجئ» لسعر ليتر المازوت المدعوم للتدفئة، من 2000 ليرة سورية إلى 5000 ليرة دفعة واحدة، وهو ما ترك المواطنين أمام ضربة جديدة على أعتاب فصل الشتاء.

جاء القرار في وقتٍ يعاني فيه المواطن السوري من ضغط اقتصادي هائل، وتبعات حرب لم تنتهِ، في ظل الارتفاع المتزايد في الأسعار، وندرة فرص العمل، وأصبحت الغالبية الساحقة من الشعب السوري عاجزة عن توفير احتياجاتها الأساسية، فكيف بزيادة كبيرة في أسعار الوقود، الذي يشكل عنصراً حيوياً لعملية التدفئة في فصل الشتاء الطويل والشديد البرودة في العديد من المناطق السورية؟ والسؤال هنا: كم وفّرت الحكومة جراء هذا الرفع؟ وما هي المسوغات الممكنة لمثل هذا القرار وفي هذا الظرف تحديداً؟ وهل هنالك من بدائل فعلية؟

600 مليار ليرة سورية «وفر»... فما هي الكلفة الأخرى؟

وفقاً لتصريحات وزارة النفط والثروة المعدنية للإعلام المحلي في 18 تموز الفائت، فإن عدد الأسر التي سوف تستفيد من الدعم للعام 2024- 2025 يبلغ 4 ملايين عائلة. ما يعني أنه المفترض تأمين نحو 200 مليون ليتر من المازوت (بناءً على حصة العائلة البالغة 50 ليتر سنوياً). وإذا قمنا بحساب سعر مبيع هذه الكمية اعتماداً على السعر السابق، فإنه بحدود 400 مليار ليرة سورية، أما وفقاً للسعر الجديد، فإنه يصل إلى تريليون ليرة سورية، ما يعني أن «الوفر» المتحقق من هذا الرفع يعادل 600 مليار ليرة سورية.
وبنظرة بعيدة إلى تطور أسعار المازوت المدعوم للتدفئة مقارنة بتطور الحد الأدنى الرسمي للأجور في سورية، نجد أنه خلال أربع سنوات، وتحديداً ما بين تشرين أول 2020 والشهر ذاته لعام 2024، ارتفع الحد الأدنى الرسمي للأجور اسمياً بنسبة 485% من 47,675 ليرة إلى 278,910 ليرة، أما سعر ليتر مازوت التدفئة فارتفع بنسبة 2678%، منتقلاً من 180 ليرة إلى 5,000 ليرة.
لكن هل فكر أصحاب القرار الفعليين في البلاد بالكلفة الفعلية التي ستتكبدها سورية نتيجة رفع أسعار السلع المدعومة؟ فالكلفة المستقبلية لرفع أسعار المازوت المدعوم تتجاوز بكثير هذا المبلغ الذي تم توفيره نتيجة رفع الأسعار. صحيح أن الحكومة قد تحقق «وفراً» مالياً يبلغ نحو 600 مليار ليرة سورية نتيجة تقليص الدعم على المازوت، ولكن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية على المدى البعيد ستكون باهظة.
أولاً: سيؤدي هذا القرار إلى تراجع القدرة الشرائية للأسر السورية بشكل أكبر، مما يدفعها إلى تقليص استهلاكها ليس فقط للمازوت بل أيضاً للسلع الأساسية الأخرى. وسيؤدي هذا الانخفاض في الطلب على السلع والخدمات إلى تراجع النشاط الاقتصادي في العديد من القطاعات، بدءاً من التجارة وصولاً إلى الصناعة والزراعة.
ثانياً: إن التأثير السلبي على الإنتاج الزراعي والصناعي سيؤدي إلى تراجع الإنتاج المحلي، مما سيزيد من الاعتماد على الواردات لسد الفجوة في السوق. هذا سيشكل عبئاً إضافياً على ميزان المدفوعات في ظل تبديد موارد الدولة من العملة الصعبة، ويزيد من تفاقم العجز التجاري.
والأهم من ذلك، أنه لا يمكن إغفال الأثر الاجتماعي لهذا القرار، حيث سيؤدي إلى زيادة الفقر وتفاقمه، خاصة في المناطق الريفية التي تعتمد بشكل كبير على المازوت. كما أن التداعيات المباشرة لهذا القرار تشمل مفاقمة زعزعة ما تبقى من استقرار اجتماعي هش.
إجمالاً، فإن الوفر المالي المفترض أن تحققه الحكومة من رفع أسعار مازوت التدفئة لن يكون كافياً لتغطية الخسائر الاجتماعية والاقتصادية المحتملة، بل سيسهم في تعميق الأزمة الحالية وتأجيجها أكثر.

جوهر القرار: تخفيض جديد فعلي للأجور الهزيلة

بدايةً، لا بد من فهم أن فكرة الدعم الحكومي من أساسها هي اعتراف بعدم كفاية الأجر الرسمي الذي يتقاضاه العامل، ويأتي الدعم الحكومي لتغطية الفارق أو جزء من هذا الفارق بين الأجر الرسمي وتكاليف المعيشة الضرورية.
وكما أشرنا في العديد من المواد السابقة، فإن الدعم في سورية كان تعبيراً عن اختلال التوازن بين الأجور والأرباح، بحيث تميل الكفة بشكل حاسم لمصلحة أصحاب الأرباح، وكذلك تعبير عن اختلال العلاقة بين الأجور وتكاليف المعيشة الضرورية. ورغم أن الجميع يتحدث في كل مناسبة مثل هذه عن إنهاء الدعم أو الإبقاء عليه، إلا أن المسألة الجوهرية لا تكمن في الدعم بحد ذاته، بل في العلاقة بين الأجور وتكاليف المعيشة.
من هنا، ينبغي طرح السؤال: ما الذي يعنيه رفع أسعار السلع «المدعومة» في الجوهر؟ الإجابة ببساطة هي أنه ما لم يتم رفع الأجور الحقيقية / الفعلية بحيث تتوازن مع تكاليف المعيشة فإن رفع أسعار السلع المدعومة يعني المزيد من تخفيض الأجور الحقيقية وتراكم المزيد من الثروات المنهوبة لدى أصحاب الأرباح.

1195-7

الذريعة الزائفة: التخفيض من عجز الموازنة

كلما اتخذ قرار جديد في مسيرة إلغاء الدعم ورفع أسعار السلع المدعومة عن شرائح من المواطنين، يتذرّع عددٌ من الوزراء والمسؤولين بحجة وجود عجوزات في المالية العامة للدولة، وأن هذا القرار سيسمح - حسب زعمهم- بتقليص نسبة العجز في المالية.
والسؤال البديهي هنا: من المسؤول عن وجود هذا العجز أصلاً؟ ومن أوصل الدولة إلى هذا المستوى من الشح في الإيرادات؟ في الإجابة عن هذا السؤال، يشيح المبررون بنظرهم عن السياسات الحكومية التي قامت على مدار السنوات الماضية بتصفية مختلف قطاعات الإنتاج الوطني من صناعة وزراعة وسياحة، وساهمت بتسريع انهيار العملة الوطنية، وتخلت - فوق ذلك- عن واحد من أهم مصادر إيرادات الدولة حين جددت عقود شركات الاتصالات التي كان يجب عودة ملكيتها للدولة في عام 2015. يشيحون بنظرهم عن هذا كله ويصدّرون للسوريين حجة يتيمة هي العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية (والتي بالمناسبة، استفاد منها الفساد الكبير في سورية وحقق ثروات هائلة يمكن اعتبارها أيضاً واحدة من مصادر إيرادات الدولة، لو كان هنالك من له مصلحة بحل مشاكل الناس فعلاً).

السؤال المتكرر: هل سيتم رفع الأجور الآن؟

درجت العادة في سورية أن يجري رفع اسمي للأجور بعد عمليات رفع الدعم أو رفع أسعار السلع المدعومة وبشكلٍ خاص المازوت. وبما أن خطوة الرفع تشمل حتى الآن مازوت التدفئة فقط، تكثر الأسئلة إن كان سيعقبها رفع الأجور أم لا، وهنا لا بد من تجديد التأكيد على أنه لا يوجد خلاف على أن كل ليرة سورية تضاف إلى دخل العاملين المنتجين في سورية هي بمثابة خطوة إيجابية، شريطة أن تحتفظ هذه الليرة بقيمتها بدلاً من أن تساهم في تقليل القيمة الحقيقية للقدر القليل من الليرات «المتاحة» بالفعل في جيوبهم.
وهذا هو السبب الجوهري الذي يجعل أي زيادة جديدة شبيهة بالزيادات المعهودة في سورية عاملاً مساعداً على تفاقم تردي الأوضاع المعيشية للسوريين، فهي ليست في حقيقة الأمر زيادة أجور موجهة للشعب، بل عادة ما تكون بمثابة منحة للسوق، خاصة للمحتكرين في قطاع الغذاء. ولذلك، فإن الحاجة في الوضع السوري الراهن تدعو إلى زيادة الأجور الفعلية لا الاسمية.
ولا يمكن القول بزيادة الأجور الحقيقية للسوريين بشكلٍ جدي دون الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل أساسية:
أولاً: كي تكون الزيادة في الأجور ذات معنى، يجب ألا يُنظر إلى الرقم الإجمالي بمعزل عن قدرته الشرائية في السوق. فالأهم هو القوة الشرائية للأجر، ولذا، ينبغي ربط الأجور بتكاليف المعيشة بشكل يضمن تغطية هذه التكاليف.
ثانياً: حتى إذا تم ربط الحد الأدنى للأجور بتكاليف المعيشة، فإن هذا وحده لا يكفي إذا ما تبعته ارتفاعات جديدة للأسعار في السوق، مما سيؤدي إلى انخفاض تدريجي في القيمة الفعلية للأجور. لهذا، من الضروري أن يكون هذا الربط متجدداً دورياً (شهري، ربع سنوي، سنوي، إلخ)، وهذا يجب أن يُعتبر حقاً للعمال وليس «مكرمة» من أحد.
ثالثاً: من الضروري ألا يأتي تمويل زيادة الأجور من جيوب المواطنين أنفسهم، عبر «الوفورات» المتأتية من عمليات إلغاء الدعم تحت ذريعة «ترشيده» و«توجيهه لمستحقيه»، بل يجب أن يأتي من الإنتاج الحقيقي ومكافحة الفساد واستهداف كبار الناهبين الذين يسيطرون على ثروات البلاد، بينما لا يحصل 90% من السكان إلا على 10% من هذه الثروة في أحسن الأحوال.

في أي ظرف تأتي زيادة أسعار مازوت التدفئة؟

حسب إحصائيات مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة، وصل وسطي تكاليف المعيشة لأسرة سورية مؤلفة من خمسة أشخاص إلى 13,659,956 ليرة في بداية شهر تشرين أول الجاري. ما يعني أن الحد الأدنى الرسمي للأجور لا يغطي سوى 2% من وسطي تكلفة المعيشة وإذا افترضنا وجود فردين عاملين في الأسرة، فإن الحد الأدنى الرسمي للأجور سيغطي في النهاية ما يقارب 4% من وسطي تكاليف معيشة الأسرة. هذا في حين أن نسبة الإعالة الفعلية، في ظل الأوضاع الحالية بالبلاد هي بالتأكيد أعلى من ذلك، وتبلغ - وفقاً لتقديرات المنظمات التابعة للأمم المتحدة - فرداً معيلاً واحداً مقابل سبعة أفراد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1195