التأثير المدمر للسياسات الاقتصادية: تدهور قوة العمل السورية نموذجاً
شهدت سورية منذ ما قبل انفجار الأزمة في عام 2011 سلسلة من التداعيات الكارثية التي ضربت مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وكانت قوة العمل السورية إحدى أكبر الضحايا التي تلقت ضربات موجعة نتيجة تلك الأزمة المتفاقمة. حيث عانت البلاد من تراجعٍ حاد في هذا القطاع بفعل تضافر عوامل الأزمة من جهة، والسياسات الاقتصادية التي استمرت في تقويض دور الدولة في تنظيم الاقتصاد وتقديم الرعاية الاجتماعية من جهة أخرى. وعلى هذه الأرضية، يغدو من الضروري الوقوف عند التحولات التي أصابت سوق العمل وتأثيراتها على شرائح المجتمع المختلفة.
شرحت العديد من التقارير الاقتصادية كيف أن تدمير البنية التحتية وخسارة ملايين السوريين لوظائفهم شكّل عموداً أساسياً في انهيار قوة العمل. ومع استمرار تفاقم الأزمة، بات واضحاً أن السياسات الاقتصادية التي اتبعها أصحاب القرار في البلاد، بدلاً من معالجة الجذور العميقة لهذه الأزمة، كانت تسهم في تفاقمها من خلال تفكيك نظام الرعاية الاجتماعية وتهميش دور الدولة الاقتصادي، ما زاد من حجم الفقر والتفاوت الطبقي ووضع قوة العمل السورية في موقف كارثي.
ومؤخراً، أصدر المكتب المركزي للإحصاء في سورية مجموعة من البيانات التي تغطي أوضاع سوق العمل حتى عام 2022. ورغم الانتقادات الكبيرة التي يمكن الحديث عنها حول دقة هذه البيانات وحداثتها، إلا أن هذه الأرقام تعكس بشكل أو بآخر جزءاً بسيطاً من الصورة القاتمة التي تعيشها سوق العمل السورية.
وتحليل هذه البيانات لا يكشف لنا عمق التراجع الذي شهدته قوة العمل في سورية على مدار سنوات الأزمة فحسب، بل يشكل مرآة لواقع اقتصادي يعاني أزمة بنيوية وغياباً لمحاولات الإصلاح.
تراجع عدد العاملين بـ43.71% خلال 12 عاماً
شهدت سوق العمل السورية تغيرات جوهرية بين عامي 2010 و2022. ويظهر التغير في توزع العاملين فوق 15 عاماً بين القطاعات المختلفة بشكل واضح عند مقارنة الأرقام الرسمية المتاحة من عام 2010 مع بيانات عام 2022. ففي عام 2010، بلغ مجموع العاملين في سورية ممن تتجاوز أعمارهم 15 عاماً نحو 5,054,456 شخصاً. وفي ذلك الحين، كان من اللافت أن أكثر من 72.8% من هؤلاء هم من عمال القطاع الخاص (3,682,467 عاملاً)، بينما لم تتجاوز نسبة عمال القطاع الحكومي عتبة 26.9% (1,360,021 عاملاً)، في حين كان القطاع المشترك، الذي يجمع بين الاستثمارات الحكومية والخاصة، لا يستوعب أكثر من 11,968 عاملاً فقط.
لكن بعد أكثر من عقد على انفجار الأزمة، شهدت هذه الأرقام تغيرات كبيرة في عام 2022. حيث انخفض مجموع العاملين بشكل ملحوظ ليصل إلى 2,845,242 شخصاً فقط، وهو ما يمثل تراجعاً كبيراً بنسبة 43.71% مقارنة بعام 2010.
وفي حين شهد عدد العاملين في القطاع الحكومي زيادة طفيفة في عام 2022، حيث بلغ عدد العاملين في هذا القطاع 1,447,895 شخصاً، أي بزيادة قدرها 6.46% عن عام 2010. تعرض القطاع الخاص لضربة قاسية، حيث انخفض عدد العاملين فيه بشكل حاد ليصل إلى 1,385,285 شخصاً في عام 2022، وهذا ما يمثل انخفاضاً بنسبة 62.38% مقارنة بعدد العاملين في عام 2010. في حين حافظ القطاع المشترك على استقرار نسبي في عدد العاملين فيه القليل أصلاً، حيث بلغ عددهم في عام 2022 حوالي 12,062 شخصاً، بزيادة طفيفة قدرها 0.79% مقارنة بعام 2010.
ومن حيث التوزع الجنسي للعاملين في مختلف قطاعات الاقتصاد السورية، تظهر البيانات تحولات واضحة بين عامي 2010 و2022، إذ شهدت تركيبة القوة العاملة تغيرات ملموسة على مستوى الجنس. فبينما كانت النسبة الأكبر من العاملين في مختلف القطاعات خلال عام 2010 تتألف من الذكور (87.1%)، حدثت تراجعات كبيرة في عدد الذكور العاملين، في مقابل زيادة ملحوظة في عدد الإناث العاملات: في عام 2010، بلغ عدد الذكور العاملين 4,403,580 شخصاً، أما في عام 2022، فقد انخفض عددهم إلى 2,043,659 شخصاً، وهو ما يمثل تراجعاً حاداً تصل نسبته إلى 53.5% مقارنة بعام 2010.
على النقيض من ذلك، شهدت القوى العاملة النسائية نمواً ملحوظاً خلال الفترة ذاتها. ففي عام 2010، كان عدد الإناث العاملات في سورية يبلغ 650,876 امرأة، وكان وجودهن في سوق العمل محدوداً إلى حد كبير مقارنة بالذكور، لكن بحلول 2022، ارتفع عدد النساء العاملات إلى 801,583 امرأة، وهو ما يمثل زيادة واضحة بنسبة 23.1%. وخلافاً لكليشهات الجمعيات غير الحكومية والشعارات الزائفة حول «تمكين المرأة»، فإن هذه الزيادة في عدد النساء العاملات ليست دليلاً على تحسن أوضاعهن الاقتصادية، فالعديدات منهن يواجهن ظروف عمل صعبة وغير مستقرة، مع تدنٍ واضح في الأجور وغياب الحماية الاجتماعية.
اعتماد على الخدمات وإهمال للإنتاج الحقيقي
تظهر البيانات الخاصة بالتوزع القطاعي للعاملين في القطاع الحكومي في سورية بين عامي 2010 و2022 تبايناً واضحاً بين القطاعات المختلفة، مما يكشف عن ميل كبير للاعتماد على قطاع الخدمات مقارنة بالقطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة. فعلى الرغم من الزيادة الطفيفة في عدد العاملين في القطاع الزراعي، إلا أن أعداد العاملين في هذا القطاع تبقى محدودة جداً. في عام 2010، كان عدد العاملين في القطاع الزراعي الحكومي 15,719 شخصاً فقط، وبحلول عام 2022 ارتفع إلى 19,588 شخصاً. ورغم ذلك، يظل هذا العدد ضئيلاً بالمقارنة مع بقية القطاعات، مما يشير إلى تراجع الدور الذي يلعبه هذا القطاع في الإنتاج الحكومي، رغم أهميته الكبيرة للأمن الغذائي.
أما قطاع الصناعة، الذي يُفترض أن يكون دعامة رئيسية للاقتصاد الحقيقي، فقد شهد تراجعاً ملحوظاً. في عام 2010، كان عدد العاملين في الصناعة 161,025 شخصاً، لكن هذا العدد انخفض بشكل كبير إلى 80,604 عامل في عام 2022، أي بانخفاض قدره 49.94%. ويعكس هذا التراجع الضخم الأزمة التي مرت بها الصناعة السورية، حيث تعرضت المنشآت الصناعية الحكومية للتصفية الفعلية.
على النقيض من ذلك، يظهر الاعتماد الكبير على قطاع الخدمات في التوظيف الحكومي. فقد شهد هذا القطاع زيادة ملحوظة في عدد العاملين، حيث ارتفع عددهم من 1,022,061 شخصاً في عام 2010 إلى 1,233,665 شخصاً في عام 2022، بزيادة نسبتها 20.7%. وهذا التركيز الكبير على قطاع الخدمات يعكس اتجاهاً نحو تعزيز الاعتماد على هذا القطاع وإهمال القطاعات الحقيقية كالزراعة والصناعة.
تفاقم البطالة السورية وأرقام مشكوك بصحتها
تكشف بيانات البطالة المعلنة في سورية تحولاً كبيراً في عدد المعطَّلين عن العمل بين عامي 2010 و2022. ففي عام 2010، بلغ عدد المعطَّلين عن العمل حوالي 476,346 شخصاً، لكن مع تفاقم الأزمة وتراجع الوضع الاقتصادي الاجتماعي، ارتفع عدد المعطَّلين عن العمل بشكل حاد ليصل إلى 1,413,661 شخصاً في عام 2022. حيث يشير هذا الرقم الضخم إلى أزمة بطالة حادة، خصوصاً عندما نأخذ في الاعتبار أن عدد المعطَّلين عن العمل يمثل 23.7% من إجمالي قوة العمل البالغة 5,964,458 شخصاً وفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء.
ومن حيث التوزع الجنسي للمعطَّلين عن العمل في عام 2022، تشير البيانات إلى أن 661,246 من المعطَّلين هم من الذكور، في حين يبلغ عدد الإناث المعطَّلات عن العمل 752,415 امرأة. وتعكس هذه الأرقام تغيراً في تركيبة المعطَّلين عن العمل، حيث يبدو أن الأزمة لم تميز بين الجنسين في التأثيرات السلبية، مع وجود ارتفاع ملحوظ في نسبة البطالة بين النساء.
لكن رغم ذلك، يجب التعامل مع هذه الأرقام بحذر، حيث تشكك العديد من المصادر في دقتها. فرغم أن البيانات الرسمية تشير إلى أن نسبة البطالة في سورية تبلغ نحو 23.7%، إلا أن العديد من التقديرات تشير إلى أن الوضع أكثر سوءاً. ووفقاً لهذه التقديرات، فإن نسبة البطالة الفعلية تتجاوز 37%، وهو ما يعكس انهياراً أكبر في سوق العمل نتيجة العوامل المعقدة التي صاحبت الأزمة، بما في ذلك تدمير البنية التحتية وتوقف العديد من القطاعات الاقتصادية عن العمل في ظل استمرار السياسات الاقتصادية التي تحدّ من التوظيف.
وإلى جانب البطالة الظاهرة، هناك مشكلة أخرى أكثر تعقيداً تتمثل في البطالة المقنَّعة. إذ تشير بعض التقديرات إلى أن نسبة البطالة المقنعة تجاوزت 85% في مختلف القطاعات. والبطالة المقنَّعة تعني وجود عدد كبير من العاملين الذين يشغلون وظائف غير منتجة أو وظائف لا تتطلب مؤهلاتهم، حيث يعمل هؤلاء في ظروف تتسم بانخفاض الأجور أو ساعات العمل المحدودة، وقد اضطر العديد من السوريين إلى قبول أي نوع من العمل المتاح، حتى لو كان ذلك في ظروف غير مناسبة أو غير مثمرة.
وفي جميع دول العالم، تعدُّ البطالة المقنعة مؤشراً خطيراً على تدهور سوق العمل، حيث يشير هذا الوضع إلى أن القطاعات الاقتصادية لم تعد قادرة على استيعاب العمال بشكل منتج. بل إن جزءاً كبيراً من العمال قد تحول إلى وظائف مؤقتة أو منخفضة القيمة المضافة، مما يساهم في زيادة الفقر وتفاقم سوء توزيع الثروة الوطنية. وكذلك، تعكس هذه الأرقام فقدان الأمل بين العديد من العمال في العثور على وظائف ملائمة تتناسب مع مؤهلاتهم، وهو ما يؤدي إلى زيادة الاعتماد على المساعدات أو الهجرة للخارج.
وفي ظل هذه المؤشرات يصبح من الواضح أن سوق العمل السوري يواجه تحديات هائلة تحتاج إلى معالجة جذرية. لا يتعلق الأمر فقط بإيجاد فرص عمل جديدة، بل بتغيير جذري في البلاد بحيث تصبح قادرة على توفير وظائف حقيقية ومثمرة للعاملين، وتقليل الاعتماد على القطاعات غير الرسمية والوظائف المؤقتة التي لا توفر دخلاً كافياً أو استقراراً طويل الأمد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1193