دهاليز الكهرباء السورية تبتلع المليارات: ولكن من يدفع الثمن؟

دهاليز الكهرباء السورية تبتلع المليارات: ولكن من يدفع الثمن؟

يستمر تدهور قطاع الطاقة في سورية بوتيرة متسارعة، دون أن تلوح في الأفق أي حلول جذرية من جانب المسؤولين في البلاد. وسواء كنا في الشتاء أو الصيف، تتفاقم معاناة السوريين مع تزايد ساعات انقطاع الكهرباء بحجج وذرائع عدة لم يعد يلتفت إليها السوريون ولا حتى على سبيل التهكم. لكن ثمة جانب آخر من المسألة يتجاوز مشكلة التقنين ويرتبط مباشرة في موضوع الكلف المعلنة ومدخلات الإنتاج يجدر نقاشه لما يكشفه من مليارات ضائعة في دهاليز عملية إنتاج الطاقة في سورية التي ينخرها الفساد وانعدام الشفافية.

في تصريح خاص لصحيفة «تشرين» المحلية نشرته يوم الأربعاء 24/7/2024، قال وزير الكهرباء إن «برنامج التقنين مرتبط بكميات التوليد المتاحة، علماً أنها حالياً تقدر بحوالي 2000 ميغا، والجاهزة في الخدمة تقدر بحوالي 5500 ميغا في حال توفر حوامل الطاقة اللازمة لتوليدها»، مؤكداً أن «حاجة وزارة الكهرباء اليومية من الغاز تقدر بـ23 مليون متر مكعب، والمتاح من تلك الكمية 6.5 ملايين متر مكعب، كما أننا نحتاج إلى 10 آلاف طن من الفيول، والمتاح منها فقط 4500 طن».

ما هي الكميات الفعلية التي يمكن توليدها؟

بالنظر إلى «التسريبات» التي نقلتها بعض المواقع الإلكترونية السورية المحلية عن مصادر في وزارة الكهرباء في مرات متعددة، وبالنظر إلى بعض الأبحاث الجامعية التي صدرت في جامعتي دمشق وتشرين، والتي استند الطلاب فيها إلى مصادر ومعلومات من وزارة الكهرباء، فإن المتعارف عليه في سورية أن كل 1 كيلو غرام من الفيول يستطيع أن ينتج ما يقارب 4 كيلو واط ساعي، وأن كل 1 متر مكعب من الغاز قادر أيضاً على إنتاج نحو 5 كيلو واط ساعي.
هذا يعني أن كفاءة محطات الفيول تقارب 34.25%، وكفاءة محطات الغاز الطبيعي تقارب 47.39% (الوسطي العالمي لكفاءة محطات الفيول - على افتراض أنه فيول ثقيل - يقارب 36% وهو يعتمد إلى حد كبير على التكنولوجيا المستخدمة ومدى تحديث المحطة وطبيعة الوقود المستخدم. أما الوسطي العالمي لكفاءة محطات الغاز الطبيعي فتصل إلى نسبة تتراوح بين 55% إلى 58%).
لكن بغض النظر عن مسألة كفاءة المحطات، فإنه وفق المعادلة المتعارف عليها في سورية والتي ذكرناها آنفاً، فإن كمية الـ4500 طن فيول التي أعلن عنها الوزير، يجب أن تكون قادرة على توليد 18 مليون كيلو واط ساعي يومياً، وكذلك فإن الـ6.5 ملايين متر مكعب من الغاز ينبغي أن تنتج 32.5 مليون كيلو واط ساعي يومياً.
بحسابٍ بسيط، نستنتج أن الكميات التي كان ينبغي إنتاجها سنوياً تعادل 6.57 مليار كيلو واط ساعي من الفيول، ونحو 11.9 مليار كيلو واط ساعي من الغاز. أي ما مجموعه 18.47 مليار كيلو واط ساعي سنوياً.

1187a

28% من الطاقة الكهربائية الممكنة لم تنتج

للمقارنة، يمكننا العودة إلى المذكرة التي قدمتها وزارة الكهرباء أمام رئاسة مجلس الوزراء حول الأعمال المنجزة خلال العام 2023، والتي قدرت فيها إجمالي توليد الكهرباء خلال العام بـ13.3 مليار كيلو واط ساعي.
إذا تجاهلنا أن توريدات حوامل الطاقة في سورية خلال عام 2023 كانت أكثر بكثير منها في العام الحالي (حسب التقديرات، فقد كان يصل إلى وزارة الكهرباء في شهر آذار 2023 ما مقداره 6 آلاف طن من الفيول و7 ملايين متر مكعب من الغاز يومياً)، فإن الفارق بين الرقمين يصل إلى 5.17 مليار كيلو واط ساعي سنوياً.
بمعنى آخر، فإن نحو 28% من الطاقة الكهربائية التي كان ينبغي إنتاجها لم تنتج. وإذا كانت الوزارة نفسها هي من أكدت أن كل 1 كيلو غرام من الفيول يستطيع أن ينتج ما يقارب 4 كيلو واط ساعي، وأن كل 1 متر مكعب من الغاز قادر أيضاً على إنتاج نحو 5 كيلو واط ساعي، فما المبرر لهذا الضياع؟
ولنفهم تكلفة هذه المسألة، سنعتمد على تصريحات المسؤولين في البلاد الذين يؤكدون أن تكلفة إنتاج الكيلو واط الساعي في سورية باتت 2200 ليرة سورية. ما يعني أن هنالك هدر قيمته 1034 مليار ليرة سورية ضائع في حسابات قدرة المحطات على التوليد بهذه النقطة فقط.
وسبب هذه المليارات الضائعة لا يمكن تفسيره إلا بأحد عاملين، إما أن كفاءة المحطات في سورية هي أقل مما هو معلن، وعلى نحوٍ يجعلنا كسوريين ندفع ثمن حوامل طاقة لا تعود علينا بالطاقة فعلياً، وإما أن عملية فساد كبيرة تجري في هذا المفصل من عملية إنتاج الطاقة في البلاد. وفي الحالتين، تقع المسؤولية على أصحاب القرار في هذا الملف.

1187b

736.8 مليار ليرة سورية إضافية وبالحد الأدنى!

فوق هذا كله، تتمتع سورية بواحدة من السمات الفريدة التي قلّ نظيرها في العالم كله. حيث أن وسطي كميات الطاقة الكهربائية المفقودة خلال عملية الإنتاج الكهربائي يتفاوت بين الدول ويعتمد على عدة عوامل، بما في ذلك كفاءة محطات التوليد والتكنولوجيا المستخدمة ونوع الوقود والتصميم العام لشبكات الطاقة الكهربائية. لكن بشكل عام، يمكن أن تتراوح الخسائر في عملية الإنتاج الكهربائي عالمياً بين 5% إلى 15% من إجمالي الطاقة المنتجة (أي 10% وسطياً)، فكم هي النسبة في سورية؟
حسب البيانات الرسمية الحكومية، فإن نسبة الفاقد في الطاقة الكهربائية والكميات المخصصة للاستهلاك الذاتي وصلت في عام 2020 إلى نحو 30.8%، ونحو 30.9% في العام 2021، ونحو 32.5% في العام 2022. (ملاحظة: لا تكشف التصريحات الرسمية عن نسبة الفاقد لوحده، بل دائماً تربطه مع الكميات المخصصة للاستهلاك الذاتي، وغالباً كي تصعب عملية حساب قيمة هذا الفاقد).
رغم أن ما ذكرناه آنفاً يوضح أن نسبة الفاقد هي في تصاعد مستمر، إلا أننا سنعتمد آخر رقم وهو 32.5%. وكي نطرح منها نسبة الكميات المخصصة للاستهلاك الذاتي بطريقة تقريبية، سنعتمد النسبة التي كانت موجودة في عام 2020 والتي بلغت 4.8%. وعليه، نستطيع أن نقدر أن نسبة الفاقد هي 27.7% (مع العلم أن حتى هذه النسب المعلنة مشكوك بها، وهي غالباً أعلى من ذلك).
أي أن هنالك في سورية فاقد يقدر بـ3.68 مليار كيلو واط ساعي، قيمته وفقاً لتكلفة إنتاج الكيلو واط الساعي المعلنة في سورية تصل إلى أكثر من 736.8 مليار ليرة سورية. والسؤال الأهم: من يدفعها؟ هل تتحمل الحكومة تكاليفها أم يجري تجييرها إلى فواتير السوريين بطرق عدة؟

1187c

السوريون ممنوعون من الاطلاع على التفاصيل

وزارة الكهرباء هي الجهة الرسمية التي تتولى بالتعاون مع غيرها من الوزارات مسؤولية تزويد البلاد بالطاقة الكهربائية وهي مسؤولية حساسة جداً وتلعب دوراً حيوياً في دعم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. لكن رغم ذلك ورغم الأهمية البالغة لهذا القطاع، فإن الوزارة، شأنها شأن العديد من الجهات الحكومية الأخرى، تتبع سياسة عدم الإفصاح الكامل عن التفاصيل التشغيلية والفنية المتعلقة بعمل محطات توليد الكهرباء وتوريد الطاقة.
وتثير هذه السياسة تساؤلات عديدة حول الأسباب التي تحول دون نشر المعلومات الدقيقة والشاملة المتعلقة بعمليات تشغيل المحطات وأدائها علماً أنها ليست سراً في جميع دول العالم، بل وحتى في دول الجوار.
فعلى سبيل المثال، لماذا لا تعلن الوزارة عن عدد ساعات تشغيل محطات التوليد، ولا تعلن تقارير تفصيلية توضح عدد ساعات التوقف سواء تلك المخصصة للصيانة الطارئة أو المبرمجة مسبقاً، أو حتى عدد ساعات التوقف الكيفي؟ ولماذا لا تعلن عن كميات الفاقد الناتجة عن محولات الرفع أو محولات الاستهلاك الذاتي أو حتى الضياعات التي تحدث في الكابلات والبارات؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1187