التبادل اللا متكافئ: كيف غذت دماؤنا شرايين الكتلة الإمبريالية؟

التبادل اللا متكافئ: كيف غذت دماؤنا شرايين الكتلة الإمبريالية؟

في عام 2021، نشر الباحثان مايكل روبرتس (خبير اقتصادي في لندن، وأحد رموز الحركة النقابية البريطانية)، وجولييلمو كارشيدي (أستاذ اقتصاد في جامعة أمستردام) ورقة بحثية في مجلة «المادية التاريخية» التي تصدر أربع مرات في العام، بعنوان «اقتصاديات الإمبريالية الحديثة». وركزت الورقة حصرياً على «الجوانب الاقتصادية للإمبريالية» استناداً إلى فلاديمير لينين، وقد عرّفت هذه الجوانب بأنها «استحواذ الدول الرأسمالية المتقدمة ذات التكنولوجيا العالية المستمر وطويل الأمد على القيمة الزائدة من الدول المُسيطر عليها ذات التكنولوجيا المنخفضة». ودرست الورقة أربعة مسارات تتدفق من خلالها القيمة الزائدة من الدول المنهوبة إلى الدول الإمبريالية، وهي: هيمنة العملة (أي الفرق بين قيمة العملة مقابل تكلفة إنتاجها)، وتدفقات الدخل من الاستثمارات الرأسمالية، والتبادل اللامتكافئ من خلال التجارة، والتغيرات في أسعار الصرف.

لم ينكر الباحثان الجوانب الأخرى للسيطرة الإمبريالية على غالبية العالم، مثل: القوة العسكرية والسيطرة السياسية على المؤسسات الدولية (الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، إلخ) وقوة «الدبلوماسية الدولية»، لكنهما ركزا على الجوانب الاقتصادية، التي شددا على أنها العامل الحاسم في دفع هذه الجوانب المهمة الأخرى كالهيمنة العسكرية والسياسية وجوانب الثقافة والأيديولوجيا.

التبادل اللامتكافئ بين الكتلة الإمبريالية والدول النامية

في هذه الورقة، أولى الباحثان اهتماماً خاصاً بدراسة التبادل اللامتكافئ، أي نقل القيمة الزائدة من الدول المنهوبة نحو الدول الإمبريالية من خلال التجارة الدولية.
واعتبرت الورقة البحثية أن دول الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان وأستراليا يمكن أن يطلق عليها اسم «الكتلة الإمبريالية»، وضمن هذا التقسيم تبرز دولتان تتمتعان بسمة «الدولة الإمبريالية ذات التكنولوجيا المتقدمة» وتفرض - نتيجة لذلك- هيمنة حتى على غيرها من دول «الكتلة الإمبريالية» وهي: الولايات المتحدة وألمانيا.
ودرست الورقة متغيرين في عملية تحليل التبادل اللا متكافئ: التركيب العضوي لرأس المال ومعدل الاستغلال، وقامت بقياس أي من هذين المتغيرين كان أكثر أهمية في المساهمة بعملية التبادل اللا متكافئ.
اتضح من ذلك أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حصلت الكتلة الإمبريالية سنوياً على حوالي 1% من ناتجها المحلي الإجمالي من خلال نقل القيمة الزائدة من بقية الاقتصادات «النامية» الرئيسية في مجموعة العشرين، في حين فقدت الأخيرة حوالي 1% من ناتجها المحلي الإجمالي من خلال القيمة الزائدة المنقولة إلى الكتلة الإمبريالية. وكانت هذه النسب في ارتفاع دائم.
وأهم المسارات الأخرى التي تم من خلالها نقل الثروة نحو الكتلة الإمبريالية جاء من تدفق الأرباح والفوائد والإيجارات التي استحوذت عليها الكتلة الإمبريالية من استثماراتها في الأصول (سواء الملموسة أو المالية) لدى الدول المنهوبة.

عودة جديدة: «السبعة الكبار» مقابل «البريكس»

في 25 نيسان الماضي، عاد مايكل روبرتس - أحد الباحثين الاثنين في الورقة المذكورة آنفاً - ليقدم ما سماها «أفكاراً إضافية حول اقتصاديات الإمبريالية» ونشرها على موقعه الإلكتروني الخاص. وجاء فيها:
في هذه المقالة، قررت تحديث هذا الجانب من الهيمنة الاقتصادية من خلال مقارنة التدفقات الإجمالية للدخل الأساسي لمجموعة «السبعة الكبار G7» - أي الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان - مع نظيرتها في اقتصادات مجموعة البريكس الأساسية - الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. ونظرت فقط إلى سنوات القرن الواحد والعشرين، ليتبين لي أن التدفقات الإجمالية للدخل إلى مجموعة السبعة الكبار هي الآن أكبر بسبع مرات من تلك التي تلقتها اقتصادات البريكس.
ووجدت أيضاً أنه بعد حساب الخصومات (أي بعد حذف الدخل المتدفق إلى الخارج)، كانت النتيجة الصافية أكثر وضوحاً: كان التدفق الصافي السنوي للدخل إلى اقتصادات مجموعة السبعة الكبار يعادل نحو 0.5% من ناتجها المحلي الإجمالي. وقد حصلت أكبر خمس اقتصادات إمبريالية في مجموعة السبعة الكبار على نسبة صادمة بلغت 1.7% من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي فقط من خلال هذه التدفقات الصافية. لكن في المقابل، فقدت اقتصادات مجموعة البريكس 1.2% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً من خلال التدفقات الصافية المنقولة من دولها.
وإذا نظرنا إلى التدفقات الصافية للدخل لكل من مجموعة السبعة الكبار ومجموعة البريكس، فإن أكبر المستفيدين خلال العقود القليلة الماضية كان اليابان (بسبب حيازاتها الضخمة من الأصول الأجنبية) والمملكة المتحدة (كونها المركز المالي للدوائر المالية الإمبريالية). أما أكثر الدول تعرضاً لهذا النهب كانت جنوب أفريقيا وروسيا.
والآن، إذا أضفنا 1% فقط كمكاسب إضافية حققها الناتج المحلي الإجمالي عبر استغلال الدخل المتدفق من الدول المنهوبة، فإن مجموعة السبعة الكبار التي بإمكاننا تسميتها «الكتلة الإمبريالية» تستفيد بنحو 2% إلى 3% من ناتجها المحلي الإجمالي سنوياً فقط من استغلال دول مجموعة البريكس (وهي تشكل الاقتصادات الرئيسية فيما يسمى بدول الجنوب العالمي)، وهذه النسبة تعادل تقريباً معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي لدول الكتلة الإمبريالية في القرن الواحد والعشرين.

النادي الإمبريالي مغلق تقريباً منذ أيام لينين!

ثمة عامل آخر ينبغي أخذه في الاعتبار أيضاً، وهو ما يسمى بـ«العائد الزائد» وهو العائد الذي تحصل عليه الكتلة الإمبريالية من الأصول المحتفظ بها في الخارج، بما في ذلك الثروات المخفية في الملاذات الضريبية والدخل الرأسمالي المتراكم منها. وهنا نجد أن الأصول الأجنبية الإجمالية أصبحت أكبر من أي وقتٍ مضى، وخاصة في الدول الغنية، ووصل حجم الثروات الأجنبية المحتفظ بها في الخارج إلى حوالي ضعف حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي السنوي، وحوالي خمس الثروة العالمية. وبطبيعة الحال، تتحكم الكتلة الإمبريالية (مجموعة الدول التي أشرنا إليها سابقاً) في معظم هذه الثروة الخارجية، حيث تستحوذ أعلى 20% من الدول الأغنى على أكثر من 90% من الثروة الأجنبية الإجمالية.
ويمكن تعريف «العائد الزائد» بأنه «الفارق بين عوائد الأصول الأجنبية والعوائد على الالتزامات الأجنبية». وهذا العائد زاد بشكل كبير بالنسبة لأعلى 20% من الدول الأغنى منذ عام 2000. والتحويلات الصافية للثروة من الدول الأفقر إلى الدول الأغنى تعادل الآن 1% من الناتج المحلي الإجمالي لأعلى 20% من الدول (و2% من الناتج المحلي الإجمالي لأعلى 10% من الدول)، بينما تنخفض بنحو 2% إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة لأدنى 80% من الدول.
الأمر الذي كان لافتاً لنا في ورقتنا البحثية هو أن الكتلة الإمبريالية من الدول كما عرّفناها في عام 2021 كانت تقريباً هي ذاتها تلك الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة التي حددها لينين كمجموعة إمبريالية في عام 1915. حيث لم تكن هناك أي إضافات حقيقية تقريباً للنادي الإمبريالي الذي كان مغلقاً بإحكام أمام الأعضاء الجدد.
وكانت الاقتصادات الناشئة في القرن الماضي محكومة بالهيمنة من جانب الكتلة الإمبريالية. وتؤكد البيانات ذلك: على مدار الأعوام الـ50 الماضية، لم تتغير الكتلة الإمبريالية إلا من ناحية واحدة، هي أنها زادت معدلات نقل الثروة من بقية الدول المنهوبة، ويشمل ذلك بشكلٍ أساسي دولاً مثل: الصين وروسيا والهند والبرازيل. وبهذا المعنى، فإنه لا يمكننا أن نقول: إن دول مجموعة بريكس ليست دولاً إمبريالية فحسب، بل إنه ليس بالإمكان اعتبارها دولاً شبه إمبريالية أيضاً.

محاولات للالتفاف على محددات لينين للإمبريالية

هنالك محاولات محمومة تجري اليوم للتلاعب على المحددات التي وضعها لينين للإمبريالية، وهي محاولات ليست في سياق التطوير الإيجابي للنظرية الماركسية اللينينية، بل لها هدف آخر سنوضحه لاحقاً.
إحدى هذه المحاولات هي استثارة قضية «الاستغلال الفائق للعمل»، ويمكن تعريف هذا الاستغلال بأنه الحالة التي تكون فيها الأجور منخفضة جداً بحيث تكون أقل من قيمة قوة العمل، أي أقل من القيمة اللازمة للحفاظ على قوة العمل وتجديدها بشكلٍ كاف للاستمرار بالعمل. اليوم، يحاول البعض أن يقول: أن هذه هي «السمة الرئيسية» للاستغلال الإمبريالي للجنوب العالمي، حيث الأجور منخفضة جداً لدرجة أنها أقل من قيمة قوة العمل. وبناءً على هذا، يسمح الاستغلال الفائق للعمل الذي تقوم به الشركات الإمبريالية متعددة الجنسيات لها بتحقيق أرباحها الفائقة.
فهل كان «الاستغلال الفائق للعمل» - الذي لا نشك في وجوده فعلاً - هو بالضرورة المحرك الرئيسي لنقل القيمة الزائدة من الدول الفقيرة إلى الغنية؟ في رأينا، كانت آلية الاستغلال الإمبريالي ونقل القيمة الزائدة كما درسها لينين تقوم بهذه المهمة دون الحاجة إلى الاستغلال الفائق للعمل كسبب رئيسي.
هل يمكننا قياس ما إذا كان نقل القيمة يعود إلى «الاستغلال الفائق للعمل» أم لا؟ إحدى الطرق الممكنة هي أن يتم النظر إلى مستويات الحد الأدنى للأجور على المستوى الوطني، وهي مستويات تختلف بشكل حاد بين الدول الغنية والفقيرة. النقطة هنا، هي أنه إذا نظرنا إلى ذلك فسنخرج باستنتاج أن هناك أيضاً عمالاً في الاقتصادات الإمبريالية يتم «استغلالهم بشكل فائق» وفقاً لهذا المعيار. وفي المقابل، هناك العديد من العمال في الدول الفقيرة الذين يكسبون فوق مستويات الحد الأدنى للأجور: بحسب البيانات، فإن أكثر من 70% من عمال دول مجموعة بريكس يكسبون أعلى من قيمة قوة عملهم على أساس الحد الأدنى الوطني للأجور، ونسبة هؤلاء في مجموعة السبعة الكبار تصل إلى 90%. وهذه النسبة المتقاربة تتعامى عن الفروقات المطلقة بين أجور عمال المجموعتين، حيث يكسب عمال بريكس أجراً أقل بكثير من نظرائهم في مجموعة السبعة الكبار. والأهم من ذلك، أن هذا التقارب في النسب يسهل وضع إشارة مساواة بين المجموعتين، ويُخلص مجموعة السبعة الكبار من تهمة الإمبريالية. وهنا يتضح هدف من يصرون على تجاهل محددات لينين للإمبريالية، وإقحام مؤشر «الاستغلال الفائق للعمل» كبوصلة زائفة لتحديد ماهية الدولة الإمبريالية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1176