من بيانات التجارة العالمية: كيف تراجعت واشنطن وتقدّم خصومها في العالم؟
في مطلع العام الجاري، نقلت وسائل الإعلام العالمية وزارة التجارة الأمريكية، خبراً مفاده أنه تم تخفيض الميزان التجاري الأمريكي في نهاية عام 2022 إلى عجزٍ قدره 948.1 مليار دولار. حيث بلغت صادرات السلع والخدمات حوالي 3 تريليون دولار، أما الواردات فقط وصلت إلى 3.9 مليار دولار. أي أن العجز التجاري يقارب 1 تريليون دولار. وهذا رقم قياسي في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بأكمله!
وفقاً للصحف الأمريكية، فإنه في العام الماضي «لم يكن هنالك ما يشير إلى أن الولايات المتحدة أوقفت أو رفضت التجارة مع العالم بأسره، وذلك رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية مع روسيا والصين». رغم ذلك، تجاوزت الزيادة في الواردات الزيادة في الصادرات بأكثر من 100 مليار دولار من القيمة المطلقة.
زيادة الواردات الأمريكية من «دماء» الأوروبيين
الزيادة في الصادرات، التي بلغت 453.1 مليار دولار، حسب صحيفة «نيويورك تايمز»، كانت بسبب الأحداث العسكرية في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الغربية ضد روسيا، حيث أدت هذه العوامل إلى زيادة أسعار الطاقة في السوق العالمية، واستفادت الولايات المتحدة من هذا الوضع بوصفها أحد مصادر النفط والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي والغاز المسال.
وعلى مدار العام، ارتفعت قيمة صادرات النفط الخام من الولايات المتحدة بمقدار 47.5 مليار دولار، والمنتجات البترولية - بمقدار 54.9 مليار دولار، والغاز الطبيعي - بمقدار 22.9 مليار دولار.
أما عنصر التصدير الآخر الذي أظهر زيادة كبيرة فهو تصدير الخدمات - 128.9 مليار دولار. ومن المحتمل أن تخفي أرقام النمو لبعض مجموعات منتجات إمدادات الأسلحة والمعدات العسكرية والذخيرة إلى أوكرانيا.
في هذا الصدد، تلفت صحيفة «نيويورك تايمز» الانتباه إلى حقيقة أن الزيادات الكبيرة بشكل خاص في الصادرات الأمريكية لوحظت في الاتجاه الأوروبي. حيث ضعفت القدرة التنافسية للشركات الأوروبية إلى حد كبير بعد إطلاق العقوبات المناهضة لروسيا. ونجح المصدّرون الأمريكيون في الاستفادة من هذا الوضع، حيث أنه و«بعد قطع العديد من العلاقات الاقتصادية مع روسيا، بدأ الاتحاد الأوروبي في شراء المزيد من الطاقة من الولايات المتحدة».
هنا يمكن الاستشهاد بسياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي باعتبارها السبب الرئيسي لزيادة الواردات الأمريكية خلال العام الماضي، حيث رفعت سعر الفائدة الرئيسي مراراً وتكراراً على مدار العام. وقد أدى ذلك إلى تعزيز وضع الدولار الأمريكي مؤقتاً، وبالتالي زيادة القدرة التنافسية لشركاء الولايات المتحدة التجاريين، حيث أن «القيمة العالية للدولار الأمريكي... جعلت السلع الأجنبية أرخص من السلع الأمريكية، مما ساهم إلى توسيع العجز التجاري بشكلٍ أكبر».
هذه وصفة مضمونة لكارثة اقتصادية أمريكية
ذات مرة، في «الأيام الخوالي»، كانت الولايات المتحدة الاقتصاد الأكثر تنافسية في العالم، ولم تكن تعرف ما هو العجز التجاري. بعد الحرب العالمية الثانية، كان الميزان التجاري الأمريكي، على العكس من الآن، فائضاً وظلّ كذلك حتى أواخر خمسينيات القرن العشرين.
خلال ستينيات القرن العشرين، كانت التجارة الخارجية للولايات المتحدة متوازنة بشكل عام. ولكن منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، أصبح الميزان التجاري عاجزاً بشكلٍ مطرد، وكان الميزان السلبي ينمو. وثمة تفسير لذلك: في عام 1976، في المؤتمر النقدي والمالي الجامايكي، تم اتخاذ قرار بالتحول من معيار الدولار الذهبي إلى معيار الدولار الورقي (للمزيد، راجع مادة قاسيون في العدد الماضي، بعنوان: بعد نصف قرن: هكذا بدأ نظام البترودولار وهكذا يموت اليوم).
بعد ذلك، أصبح يمكن للبنك المركزي الأمريكي طباعة الدولار دون أي اعتبار لاحتياطيات الذهب وحجم الصادرات ومؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى. حيث ظهرت فرصة فريدة لدفع ثمن الواردات الأمريكية باستخدام قطع غير مضمونة من الورق. واستفادت أمريكا استفادة كاملة من هذا. لمدة 21 عاماً - من 1985 إلى 2005 - بلغ إجمالي العجز التجاري الأمريكي (التراكمي) 6.6 تريليون دولار. وبدأت الولايات المتحدة تعيش وتستهلك السلع والخدمات من العالم بأسره بالدين، متناسية تماماً أنه في يوم من الأيام ستتوقف دول أخرى عن توريد السلع والخدمات بالدين وستقدم «سندات الدين» المقومة بالدولار الأمريكي المتراكمة على مدى عقود وتطالب بالسداد.
في حزيران 2005، قال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر: «لا أرى كيف يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في الاقتراض والاستهلاك في حين تسمح لدول أخرى بإنتاج كل شيء. هذه وصفة لكارثة اقتصادية أمريكية».
سواء ترامب أو بايدن.. العجز يعلو والناتج يهبط
كما هو شائع في العالم اليوم، فإن المؤشر العالمي لقياس اقتصاد أي دولة هو الناتج المحلي الإجمالي. وعند حساب الناتج، تتم إضافة تكلفة صادرات السلع والخدمات إلى الإجمالي، ويتم طرح تكلفة الواردات. لذلك، في العام الماضي (2022)، كان العجز التجاري الأمريكي يعني انخفاضاً فعلياً في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنحو 1 تريليون دولار!
عندما كان رئيساً، كان دونالد ترامب مهتماً بشكلٍ جدي بمشكلة العجز التجاري المتزايد. وقد وضع نصب عينيه حلاً للمشكلة يمكن أن نطلق عليه «إحلال الواردات الأمريكية»، واقترح وقف عملية تراجع التصنيع التي لوحظت منذ فترة طويلة في الولايات المتحدة. وحتى قبل ترمب، كان الجزء الأكبر من العجز التجاري بسبب التجارة الأميركية مع الصين، التي كانت غير متوازنة بشكل واضح. بذل ترامب جهوداً كبيرة لمواءمة التجارة مع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة. وقد أدى ذلك إلى تدهور العلاقات الأمريكية الصينية، لكنه لم يحقق أي نتائج واضحة.
زاد الرئيس التالي، جو بايدن، من توتر العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لكنه لم يحقق نجاحاً في التغلب على الاختلالات التجارية بين البلدين. في عام 2022، زادت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بمقدار 31.8 مليار دولار مقارنة بعام 2021 ووصلت إلى 536.8 مليار دولار. وزادت واردات الصين من الولايات المتحدة بمقدار 2.4 مليار دولار وبلغت 153.8 مليار دولار. وبالمقارنة مع رئاسة ترامب، تفاقم اختلال التوازن.
ليس بمقدور أحد في العالم أن يوقف الصين
وفقاً لوزارة التجارة الأمريكية، فإنه إلى جانب الصين، كان لدى الولايات المتحدة عجز تجاري كبير مع الدول التالية (بالمليار دولار): المكسيك - 131، فيتنام - 116، كندا - 82، ألمانيا - 74، اليابان - 68، أيرلندا - 66، تايوان - 48، كوريا الجنوبية - 44، تايلاند - 43، إيطاليا - 42، الهند - 38، ماليزيا - 37، إندونيسيا - 25، سويسرا - 23.
بطبيعة الحال، فإن اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على الواردات الصينية أكبر مما تشير إليه الإحصاءات الرسمية الصادرة عن وزارة التجارة الأميركية. حتى في عهد ترامب، تم فرض رسوم استيراد متزايدة على عدد من مجموعات المنتجات من الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة. ولتجنب مثل هذه الرسوم، كانت ترسل الشركات الصينية بضائعها إلى الولايات المتحدة من خلال دول أخرى لديها معاملة الدولة الأكثر تفضيلاً في الولايات المتحدة.
الخبير الاقتصادي والمالي الأمريكي المعروف، وولف ريختر، يؤكد أن «فيتنام أصبحت مركزاً رئيسياً لإعادة الشحن للصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة من أجل التهرب من الرسوم الأمريكية»، وبالمناسبة، يلفت ريختر الانتباه إلى حقيقة أن العجز التجاري الأمريكي قد تجاوز بالفعل 1 تريليون دولار (منذ عدة سنوات). والحقيقة، من وجهة نظره، هي أن وزارة التجارة الأمريكية تقدم إحصاءات عن الميزان التجاري تغطي كل من السلع والخدمات. وغالباً ما يتبين أن التجارة في الخدمات هي تجارة في الهواء. حيث تبين أن عمليات تصدير واستيراد العديد من أنواع الخدمات هي في كثير من الحالات عمليات زائفة إما ترتبط بالاقتصاد الأسود، وإما هدفها المباشر هو تضخيم الاسمي للأرقام. ولهذا، فمن الأفضل التعامل مع الإحصاءات المتعلقة بالتجارة في السلع، لأنها أقرب إلى الاقتصاد الحقيقي لا الاقتصاد المزيف.
عندما يخسر أحد.. يكون أحد ما قد كسب!
يجب أن نتذكر أن الاقتصاد العالمي صمم بحيث يكون مجموع كل العجز التجاري الذي تسجله البلدان مساوياً لمجموع الفوائض التجارية في البلدان الأخرى، فبقدر ما يشتري البعض ويستهلكون، يجب على الآخرين أن ينتجون ويصدرون. وبالإضافة إلى الولايات المتحدة، فإن العديد من الدول المتقدمة اقتصادياً تعاني من عجز تجاري. وفقاً للأمم المتحدة، في السنوات الأخيرة، احتلت المملكة المتحدة وفرنسا باستمرار المرتبة الأولى في أعلى 5 من حيث العجز التجاري. وفي نهاية عام 2022، وصل العجز التجاري لفرنسا إلى قيمة قياسية بلغت 164 مليار يورو. حيث تضاعف العجز تقريباً مقارنة بالعام السابق (84.7 مليار يورو).
ومن بين الدول ذات الميزان التجاري الإيجابي، تحتفظ الصين بالرقم القياسي. حيث تواصل بكين، وعلى الرغم من عرقلة واشنطن، زيادة فائضها التجاري: في عام 2020 كان 524.0 مليار دولار، وفي عام 2021 ارتفع إلى 676.4 مليار دولار، ثم في عام 2022 ارتفع إلى 876.91 مليار دولار.
لسنواتٍ عديدة، تم إدراج روسيا باستمرار في مجموعة القادة من حيث الفائض التجاري. حيث وعلى مدار ثلاثة عقود، نما حجم فائضها بسرعة. فيما يلي بيانات عن الميزان الإيجابي للتجارة الخارجية الروسية في السلع (بالمليار دولار): 1994 - 18.02، 2000 – 57.09، 2010 – 147.00، 2019 – 165.85، 2021 – 189.83. وفي السنوات الأخيرة ، احتل الاتحاد الروسي باستمرار المرتبة الأولى بين أفضل 5 دول (فقط الصين وألمانيا كانتا في المقدمة).
لا توجد بيانات لعام 2022، ذلك بسبب أن دائرة الجمارك الفيدرالية الروسية أغلقت معظم الإحصاءات في آذار من العام الماضي بفعل المواجهة الاقتصادية مع الغرب. ولكن يمكننا استخدام بيانات من بنك روسيا، الذي قدم في شهر كانون الثاني تقديرات ميزان المدفوعات الروسي لعام 2022. حيث بلغت صادرات السلع والخدمات في العام الماضي 628.1 مليار دولار ، والواردات - 345.8 مليار دولار. وبلغ فائض التجارة الروسية في السلع والخدمات العام الماضي مستوى قياسياً بلغ 282.3 مليار دولار.
لهذا، يستنتج بعض الاقتصاديين أنه وعلى ما يبدو، قد تحتل روسيا المرتبة الثانية بعد الصين في هذا المؤشر!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1140