لماذا يصرّون على إعادة الفشل ولصالح من؟
على مدى الخمسين عاماً الماضية، كان تطوّر الاقتصاد مدفوعاً بالرغبة في استخلاص تحليل للاقتصاد الكلي مباشرة من نظرية الاقتصاد الجزئي. حقق هذا المشروع نجاحاً نظرياً، ولكنّه فشل عملياً. فلماذا يصرون على استخدام هذه الوسيلة مع أنّها أثبتت فشلها في تفادي الأزمة والتضخم والانهيار؟
ترجمة: قاسيون
تعتمد نماذج الاقتصاد الكلي الحديثة، بدءاً من «دورة الأعمال الحقيقية RBC» وصولاً إلى «التوازن العام العشوائي الديناميكي DSGE»، بشكل راسخ على مبادئ الاقتصاد الجزئي للمنفعة والأرباح، وعلى وجه الخصوص نموذج النمو الذي طوّره فرانك رامزي في 1928. إنّ النجاح النظري لعملية الاشتقاق هذه دفعت خبراء الاقتصاد السائد إلى الاعتقاد بأنّهم وجدوا «المبتغى الأخير» للاقتصاد: نظرية راسخة في الاقتصاد تمكن الاقتصاديين من إدارة الاقتصاد بنجاح.
قدّم روبرت لوكاس، أحد المهندسين الرئيسيين «لثورة المؤسسات الصغيرة»، وجهة نظر منتصرة حول حالة الاقتصاد في خطابه الرئاسي أمام الجمعية الاقتصادية الأمريكية في 2003: «ولد الاقتصاد الكلي باعتباره مجالاً متميزاً في أربعينات القرن العشرين، كجزء من الاستجابة الفكرية لأزمة الكساد الأعظم. يشير المصطلح بعد ذلك إلى مجموعة من المعرفة والخبرة التي كنا نأمل أن تمنع تكرار تلك الكارثة الاقتصادية. أطروحتي في هذه المحاضرة هي أنّ الاقتصاد الكلي بهذا المعنى الأصلي قد نجح: فقد تمّ حلّ مشكلته المركزية المتمثلة في الوقاية من الكساد ضمن كلّ السيناريوهات العملية، وقد تمّ حلها في الواقع على مدى عقود عديدة... إذا أخذنا أداء الولايات المتحدة على مدى الخمسين عاماً الماضية كنقطة الانطلاق للمعيار الأساسي، فإمكانية تحقيق مكاسب في مجال الرفاهية من خلال تحسين سياسات جانب العرض على المدى الطويل تتجاوز بكثير الإمكانات التي يمكن تحقيقها من مزيد من التحسينات في إدارة الطلب على المدى القصير».
وانتشرت نزعة انتصارية مماثلة في الدوائر السياسية. أعلن بين برانكي، الذي تحدّث قبل 16 شهراً فقط من استلامه منصب رئيس بنك الاحتياطي الفدرالي في 2004 قائلاً: «لم تشهد حقبة التضخم المنخفض في العقدين الماضيين تحسينات كبيرة في النمو الاقتصادي والإنتاجية فحسب، بل شهدت أيضاً انخفاضاً ملحوظاً في التقلبات الاقتصادية، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، وهي الظاهرة التي أطلق عليها وصف الاعتدال العظيم. وأصبحت حالات الركود أقل تواتراً وأكثر اعتدالاً، كما انخفضت التقلبات ربع السنوية في الناتج وتشغيل العمالة بشكل كبير. تبقى مصادر الاعتدال الكبير مثيرة للجدل إلى حد ما، ولكن كما قلت: هناك أدلّة على وجهة النظر القائلة بأنّ تحسين السيطرة على التضخم ساهم بشكل مهم في هذا التغيير المرحب به في الاقتصاد».
وعلى نحو مماثل، كان واضعوا النماذج الاقتصادية واثقين من أنّ نماذجهم الرياضية للاقتصاد قادرة على التنبؤ بدقة بسلوكه المستقبلي. ورغم أنه كانت هناك بعض عناصر الصراع والنقد والشكوك في الاقتصاد الأكاديمي السائد، إلا أن بناة النماذج الذين كانوا الفصيل المهيمن كانوا متفاخرين وفخورين. وانعكست هذه الثقة على الهيئات الاقتصادية الدولية، حيث قامت منظمة التعاون والتنمية بمنح حق الافتتاحية للتقرير الصادر عنها الخاص بالتوقعات الاقتصادية في 2007 تحت عنوان: «تحقيق المزيد، إعادة التوازن». جاء فيه: «الوضع الاقتصادي الحالي أفضل في كثير من النواحي مما شهدناه منذ سنوات. وعلى هذه الخلفية تمسكنا بسيناريو إعادة التوازن. تبقى توقعاتنا المركزية جيدة بشكل تام: هبوط ناعم في الولايات المتحدة، وانتعاش قوي ومستدام في أوروبا، ومسار قوي في اليابان، ونشاط مزدهر في الصين والهند. وتمشياً مع الاتجاهات الأخيرة، فالنمو المستدام في اقتصادات المنظمة سيكون مدعوماً بقوة خلق فرص العمل وانخفاض البطالة».
لا شيء ممّا قيل حقيقي
بعد شهرين فقط من نشر منظمة التعاون والتنمية لتقريرها، كان عليها أن تشهد انكسار الكبرياء والتشامخ، وكان تبجّح سميتس ووترز بشأن القوى التنبؤية الخارجية، وبعد أقلّ من خمس سنوات من إعلان لوكاس بأنّ مشكلة الكساد قد تمّ حلها لفترات طويلة، انهار الاقتصاد العالمي في أكبر أزمة اقتصادية منذ أزمة الكساد الأكبر في ثلاثينيات القرن العشرين.
انهار معدل النمو الاقتصادي من 4.5٪ سنوياً إلى -3٪، وهو عكس النشاط المزدهر والنمو المستدام الذي كانوا يتحدثون عنه، وقالوا بأنّ المستقبل يخبئه. من المثير للقلق أيضاً أنّ ارتفاع معدلات البطالة الذي يحدث دائماً أثناء فترات الركود كان مصحوباً هذه المرة بظاهرة لم نشهدها منذ أزمة الكساد الأكبر: الانكماش. على الرغم من أنّ فترة الانكماش كانت قصيرة الأجل، استجابة لتدخلات سياسية حكومية كبيرة، إلا أنّها حدثت رغم ذلك: انهار معدل نمو أسعار المستهلك في الولايات المتحدة من أكثر من 5٪ سنوياً في أواخر عام 2007 إلى أقلّ من -0.1٪ سنوياً بحلول منتصف 2009. وفي تناقض صارخ مع ثقة لوكاس في أنّ «مكاسب الرفاهية من سياسات أفضل على المدى الطويل في جانب العرض تتجاوز إلى حدّ بعيد الإمكانات الناجمة عن المزيد من التحسينات في إدارة الطلب على المستوى القصير»، وجد الاقتصاديون- الذين كانوا غير مجهزين للوظيفة- أنفسهم يحاولون يائسين تعزيز الطلب الاقتصادي على المدى القصير.
ثمّ فشلوا أيضاً عندما قالوا بأنّ الطريقة لإنهاء الأزمة بسرعة هي الضخّ في النظام المصرفي ليمتلئ بالاحتياطات الفائضة، حيث أكدوا: أن هذا من شأنه تحفيز الاقتصاد بسرعة أكبر من وضع الأموال بشكل مباشر في أيدي الأسر كمثال. كانت تلك النصيحة لإدارة أوباما، الذي استخدم مهاراته الخطابية في نيسان 2009 أمام جامعة جورج تاون قائلاً: «على الرغم من أنّ هناك الكثير من الأمريكيين الذين يعتقدون لأسباب مفهومة، أنّه من الأفضل إنفاق أموال الحكومة مباشرة على العائلات والشركات بدلاً من البنوك– ويتساءلون: أين خطّة الإنقاذ الخاصة بنا؟ - فالحقيقة هي أنّ دولاراً واحداً من رأس المال في البنك يمكن في الواقع أن ينتج قروضاً بقيمة ثمانية أو عشرة دولارات للعائلات والشركات، وهو تأثير مضاعف يمكن أن يؤدي في النهاية إلى وتيرة أسرع للنمو الاقتصادي».
سلّط الركود القصير للغاية- الذي سببه فيروس كوفيد- الضوء على مدى خطأ هذه النصيحة الاقتصادية. عندما أجبرت عمليات الإغلاق بسبب الفيروس الناس على ترك العمل، كان رد الحكومة هو منح الأسر حافزاً مالياً فورياً، وانتهى الركود في شهرين فقط. استمرّ «الركود الكبير» كما يطلق عليه الأمريكيون، بينما يسميه بقية العالم «الأزمة المالية العالمية» لمدة عام ونصف، ما جعله ثاني أطول ركود تشهده الولايات المتحدة، بعد الكساد الكبير الذي امتدّ ما بين 1929 و1933.
إنّ فشلاً نظرياً وعملياً بهذا القدر من الضخامة– يتمثّل في وجود نماذج لم تستطع أن تظهر أنّ أكبر حدث اقتصادي كلي خلال قرن من الزمان كان وشيكاً، وعدم الاستعداد لمواجهة أزمة إلى درجة أنّ السياسات التي يدعو إليها الاقتصاديون جعلت التعافي أسوأ– كان سبباً في استفزاز البعض. لكن المشكلة أنّ هذا الانزعاج والنقد تبخّر، فهؤلاء غير قادرين على تصوّر أيّ طريقة أخرى لبناء الاقتصاد الكلي، تكون مختلفة عن الطريقة التي خذلتهم. ربّما الأجدى أن نسأل: طالما أنّ الطريقة التي اعتمدوها للتخطيط الاقتصادي والتنبؤ به فشلت فشلاً ذريعاً، من مصلحة من التمسّك بها حتّى اليوم؟
بتصرّف عن:
Rebuilding Economics from the Top Down—a work in progress
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1140