بعد نصف قرن: هكذا بدأ نظام «البترودولار» وهكذا يموت اليوم
تم وضع أسس النظام النقدي والمالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية في المؤتمر الدولي في غابات «بريتون وودز» الأمريكية عام 1944. في هذا المؤتمر، صوتت وفود من 44 دولة لصالح معيار الدولار الذهبي الذي اقترحته الولايات المتحدة (أي تغطية الدولار بالذهب). حيث كانت العملة العالمية للمدفوعات الدولية للتجارة والاستثمار وتراكم الاحتياطيات الرسمية هي الدولار الأمريكي. وحصل الدولار على وضع خاص ليس فقط لأنه كان الوحدة النقدية لأقوى اقتصاد في العالم في ذلك الوقت، ولكن يرجع ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن واشنطن ضمنت للسلطات النقدية في الدول الأخرى التبادل الحر للدولار مقابل الحصول على الذهب من احتياطيات الخزانة الأمريكية. بعبارةٍ أخرى، كان الدولار مدعوماً بكل من كتلة السلع التي ينتجها الاقتصاد الأمريكي واحتياطياته من الذهب.
استمر معيار الدولار الذهبي أقل من عقدين. فمن ناحية، نما المعروض بالدولار في العالم بسرعة كبيرة. ومن ناحية أخرى، أصبح الوضع الاقتصادي للولايات المتحدة أكثر تواضعاً مقارنة بالاقتصادات الأخرى التي كانت تتعافى وتتطور بسرعة. لكن الشيء الأكثر أهمية هو أن احتياطيات الذهب الأمريكية بدأت في التلاشي، وكان هناك عدد من الدول التي أرادت استبدال «الورقة الخضراء» بالمعدن الأصفر. وآخر شخص حصل على الذهب الأمريكي مقابل الدولار كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول. كان هذا في عام 1965، وحتى في ذلك الحين، لم يستجب الأمريكيون لطلبه بشكل كامل.
بعد ذلك، تم طوي الصفحة الأخيرة من تاريخ معيار الدولار الذهبي. في 15 آب 1971، أغلقت وزارة الخزانة الأمريكية «نافذة الذهب». وفي عام 1973، قرر صندوق النقد الدولي التخلي عن أسعار الصرف الثابتة وتعادل الذهب للدولار الأمريكي. وبهذا، لم يعد معيار الدولار الذهبي موجوداً.
من «بريتون وودز» إلى «نادي بيلدربيرغ»
حدث ارتباك عام في العالم، حيث لم يكن من الواضح كيفية استبدال معيار الذهب. وقد اقترح الفرنسيون استعادة هذا معيار بشكل أو بآخر. وإدراكاً منها أن الولايات المتحدة كانت خائفة من فقدان احتياطياتها من الذهب بسرعة، اقترحت باريس مراجعة جذرية للسعر الرسمي للذهب (أو تعادل الذهب) ورفعه ثلاث مرات إلى مستوى 100 دولار لكل أونصة. وأشار آخرون إلى أنه في المؤتمر النقدي والمالي لعام 1944، اقترح رئيس الوفد البريطاني، الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز، وحدة نقدية فوق وطنية تسمى «بانكور» كعملة عالمية. ثم تم رفض الاقتراح الإنجليزي.
في عام 1968، قررت الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي إصدار ما يسمى بحقوق السحب الخاصة للصندوق. وصدرت الدفعة الأولى من حقوق السحب الخاصة في كانون الثاني 1969. وهي النموذج الأولي لنفس فكرة الأموال فوق الوطنية التي تحدث عنها جون كينز. كان الكثيرون واثقين من أنه في سبعينيات القرن العشرين سيحدث انتعاش قوي بسبب حقوق السحب الخاصة، والتي بدأت تسمى «الذهب الورقي». ومع ذلك، في أوائل السبعينيات، ظل الحجم الإجمالي لحقوق السحب الخاصة الصادرة متواضعاً للغاية - ما يزيد قليلا عن 9 مليارات وحدة.
لهذا، اتضح أن «نخبة المال»، أي المساهمين الرئيسيين في مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يعملون بالفعل على خيار بديل لبنية النظام النقدي والمالي الدولي. لكنهم أبقوا كل شيء سرياً تاماً. وحدث أول تسرب للمعلومات في أواخر الربيع وأوائل صيف عام 1973. حيث ظهرت معلومات أنه في شهر أيار من ذلك العام في السويد، في بلدة سالتسغوبادن، عُقد الاجتماع السنوي لنادي بيلدربيرغ. والموقع الذي تم فيه الحدث هو جزيرة منتجع معزولة مملوكة لعائلة والنبيرغ Wallenberg المصرفية السويدية. ونادي بيلدربيرغ هو مجموعة غير رسمية تضم النخبة العالمية: ممثلي الأوليغارشية المالية العالمية التي تناقش القضايا الرئيسية للسياسة والاقتصاد الدوليين، وتتخذ القرارات المناسبة ثم تنفذها باستخدام قدرات أعضائها. ويعمل نادي بيلدربيرغ منذ عام 1954، ويعتقد الكثيرون أن هذا النادي هو النموذج الأولي لـ«حكومة عالمية».
اجتماع أيار 1973 يؤسس لما سيأتي لاحقاً
كان هناك 84 ضيفاً في اجتماع نادي بيلدربيرغ في أيار 1973، معظمهم يمثلون العالم المالي والمصرفي والنفطي. كان أهم شخصية في الاجتماع هو ديفيد روكفلر من بنك تشيس مانهاتن، الذي كان يطلق عليه آنذاك «رئيس مجلس إدارة المؤسسة الأمريكية». ومن الشخصيات الرئيسية الأخرى في الاجتماع: روبرت أندرسون (شركة النفط أتلانتيك ريتشفيلد أويل)، واللورد غرينهيل (شركة النفط بريتيش بتروليوم)، والسير إريك رول (شركة S. J. Warburg)، وجورج بول (شركة Lehman Brothers)، ووالتر ليفي (شركة ستاندرد أويل). ومن بين الشخصيات السياسية الرئيسية، ينبغي أن نذكر أيضاً زبيغنيو بريجنسكي، الذي تم تعيينه في عام 1977 مستشاراً للأمن القومي لرئيس الولايات المتحدة، جيمي كارتر.
تم إعداد جدول أعمال نادي بيلدربيرغ في عام 1973 من جانب السياسي الأمريكي المخضرم روبرت دي مورفي. وهذا الأخير هو ذاته مورفي الذي قام في عام 1922 - بصفته القنصل الأمريكي في ميونيخ- بملاحظة السياسي الألماني غير المعروف آنذاك، أدولف هتلر، وأرسل رسائل إلى وزارة الخارجية الأمريكية مع توصيات بالاهتمام بهذا «السياسي الطموح الواعد».
في اجتماع نادي بيلدربيرغ المذكور، كان المتحدث الأمريكي الرئيسي هو والتر ليفي من شركة ستاندرد أويل. وكان جوهر خطابه هو أن الوضع في سوق الذهب الأسود العالمي يؤكد أن زيادة أسعار النفط في المستقبل القريب أمر لا مفر منه. ولم تكن المناقشات حول ارتفاع أسعار النفط في نادي بيلدربيرغ تدور حول كيفية منع هذا الارتفاع، ولكن حول كيفية الاستعداد له. بما في ذلك كيفية تكييف النظام النقدي والمالي العالمي مع الحقائق الجديدة. وقد صيغت مبادئ توجيهية رئيسية لقادة الأعمال النفطية والمصرفية العالمية: أولاً، الاستعداد للزيادة الحادة المقبلة في عائدات النفط وتخصيصها «الصحيح»، وثانياً، تخصيص هذه الإيرادات على شكل قروض في الاقتصاد العالمي.
ومن تسريبات المعلومات، لم يكن من الواضح تماماً ما يمكن أن يكون سبب الزيادة المتوقعة في أسعار الذهب الأسود. ولكن بعد بضعة أشهر أصبح كل شيء واضحاً. في خريف عام 1973، اندلعت أزمة الطاقة في العالم والتي كانت من صنع الإنسان. ثم تمكنت «مجموعة روكفلر» من إحداث زيادة بمقدار أربعة أضعاف في سعر الذهب الأسود حرفياً في غضون بضعة أشهر. وكانت الشخصية المفتاحية في هذه العمليات المتعلقة بالنفط والعملة هي هنري كيسنجر، وهو السياسي المحمي من عائلة روكفلر. يشار إلى أنه في هذا الوقت كانت فضيحة تسمى «ووترغيت» تكتسب زخماً في الولايات المتحدة، موجهة ضد رئيس البلاد آنذاك ريتشارد نيكسون. ولم يعد لدى الرئيس الوقت للتعامل مع قضايا السياسة الخارجية الأمريكية. لهذا، انتقلت مقاليد السلطة في هذا المجال بحكم الأمر الواقع بالكامل إلى أيدي كيسنجر، الذي وجد نفسه في ذلك الوقت يشغل منصبين مهمين في وقت واحد - وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الرئاسي.
درس في اختراع صدمة غير موجودة أساساً
تمكن كيسنجر، تحت التوجيه العام لمعلمه الرئيسي، ديفيد روكفلر، من إعداد وإجراء خطة بارعة عنوانها هو حرب أكتوبر 1973. في الوثائق المنشورة اليوم، يوجد كلام كثير حول كيف استطاع كسينجر أن يحرّض على هذه الحرب باحتراف شديد، قاد إلى التسبب بـ«صدمة» ارتفاع أسعار النفط التي تم التخطيط لها في اجتماع نادي بيلدربيرغ المذكور سابقاً.
من الناحية الرسمية، كان سبب ارتفاع أسعار النفط هو الحظر النفطي الذي فرضه مصدّرو الذهب الأسود على الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الغربية (هولندا في المقام الأول) بصفتهم شركاء مع «إسرائيل». وفي 16 تشرين الأول 1973، أعلنت دول أوبك في اجتماعها في فيينا أنها سترفع سعر النفط من 3.01 دولار إلى 5.11 دولار للبرميل. وهذا يعني زيادة في الأسعار بنسبة 70% بضربة واحدة.
بالإضافة إلى ذلك، أعلنت السعودية والكويت والعراق وليبيا والإمارات وقطر والجزائر في اليوم التالي أنها ستخفض مستويات إنتاج النفط بنسبة 5% في شهر تشرين الأول مقارنة بشهر أيلول. وبعد ذلك سوف يقللونه بنسبة 5% كل شهر. ولن ينتهي هذا الانخفاض إلا عندما تنسحب «إسرائيل» من الأراضي المحتلة. بحلول نهاية العام، تضاعفت أسعار الذهب الأسود أربع مرات! ووجد المنظمون الحقيقيون لصدمة النفط - الدوائر الأنجلوأمريكية - أنفسهم في الظل، وتدفق رد الفعل الغاضب للمجتمع الدولي على الدول العربية المنتجة للنفط.
بين عامي في 1974 و1975، عزز هنري كيسنجر النجاح الذي تحقق في الأشهر الأخيرة من عام 1973 (في شكل ارتفاع أسعار الذهب الأسود)، حيث أجرى سلسلة من المفاوضات مع قادة دول أوبك حول مسألة الانتقال الكامل إلى مدفوعات النفط الموردة بالدولار. وهذا من شأنه أن يسمح بالحفاظ على مستوى عال من الطلب على الدولارات التي بدأت «المطبعة» التابعة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بطباعتها. وكانت الدولة الأولى في هذه القائمة هي المملكة العربية السعودية.
هنا يجب أن نذكر أن تاريخ العلاقات الأمريكية السعودية الوطيدة بدأ خلال الحرب العالمية الثانية. في ذلك الحين، بدأت واشنطن في «التودد» إلى شيوخ وملوك السعودية. وكان الدافع وراء مثل هذه العلاقة الوطيدة واضحاً: الوصول إلى ثروات النفط في شبه الجزيرة هذه. وعلى وجه الخصوص، في شباط 1945، حين التقى الرئيس الأمريكي روزفلت، عائداً من مؤتمر يالطا، بالملك السعودي على متن الطراد الأمريكي كوينسي. وفي هذا الاجتماع، تلقى روزفلت ضمانات من الرياض للشركات الأمريكية للوصول إلى الثروة النفطية للمملكة العربية السعودية، وتلقى الملك السعودي تأكيدات بحماية خاصة من واشنطن. وهكذا، في نهاية الحرب، «سلبت» واشنطن لندن الأراضي التي كانت تقليدياً في مجال نفوذ الأخيرة.
اللمسات الأخيرة على تشييد «البترودولار»
تمكن وزير الخارجية كيسنجر من إقناع الملك السعودي بأن واشنطن ستكون قادرة على «رد الجميل» الرياض بسخاء لموافقتها على استخدام الدولار بنسبة 100% في تجارة الذهب الأسود. أولاً، ستزود واشنطن الرياض بالأسلحة، مما سيسمح للسعودية بأن تصبح الدولة الأكثر تأثيراً في الشرقين «الأدنى» و«الأوسط». ثانياً، ستضمن واشنطن أن «إسرائيل» لن تمنع السعوديين من زيادة نفوذهم في المنطقة.
وهكذا ظهر تحالف مستقر بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وأعقبت الرياض زيارات كيسنجر إلى عواصم الدول الأخرى المنتجة للنفط. في بعض الأحيان مع الوعود، وأحياناً مع التهديدات، وأحياناً مع المكر، تمكن وزير الخارجية من إقناع جميع قادة دول أوبك بالحاجة إلى التحول إلى استخدام الدولار حصرياً. ومع ذلك، أقنع كيسنجر هؤلاء القادة ليس فقط بالتحول إلى العملة الخضراء، ولكن أيضاً بإرسال الدولارات التي يتلقوها إلى البنوك الغربية، الأمريكية في المقام الأول. وادعى أن هذا من شأنه أن ينظم تداول دولارات النفط. وبالتالي، ستقدم البنوك قروضاً لتلك البلدان التي ليس لديها ما يكفي من العملة الخضراء لاستيراد الذهب الأسود.
لذلك، بحلول منتصف سبعينيات القرن العشرين. ولد البترودولار. كان والده هو هنري كيسنجر (الذي لا يزال على قيد الحياة اليوم، وقد بلغ من العمر 100 عام). وفقط بعد تنفيذ هذا العمل التحضيري في كانون الثاني 1976، عقد مؤتمر نقدي ومالي دولي في كينغستون (جامايكا). وفي هذا الاجتماع، قررت الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي إلغاء معيار الذهب والدولار، واستبداله بمعيار البترودولار. تم طرد الذهب من عالم المال، وأصبح الدولار الأمريكي احتكاراً مطلقاً للنظام النقدي والمالي الدولي للغرب. وإذا تم استخدام الذهب في عام 1944 كدعم للدولار الأمريكي، فقد تم استدعاء النفط الآن ليصبح هو الداعم.
النهايات اليوم.. وتغير موقف منتجي النفط
أحداث دراماتيكية تحدث في العالم اليوم. ويشهد النظام النقدي والمالي للبترودولار أزمة خطيرة. حيث يفقد الدولار الأمريكي جاذبيته حتى بالنسبة لتلك البلدان التي تعتبر حليفة لواشنطن. لذا، فإن المملكة العربية السعودية، التي كانت حليفاً تقليدياً للولايات المتحدة وباعت نفطها مقابل الدولار لما يقرب من نصف قرن، لم تعد تظهر نفس الاحترام لواشنطن أو الدولار الأمريكي. بل أكثر من ذلك، تلمح بين الحين والآخر إلى إمكانية بيع النفط بالعملات المحلية للدول، وبشكل خاص اليوان الصيني. وبالتالي، ثمة صدع خطير للغاية يختمر في تصميم نظام البترودولار.
حتى الآن، لم يثر صندوق النقد الدولي ولا واشنطن ولا أي شخص آخر في الغرب رسمياً مسألة ما الذي يمكن أن يحل محل نظام الدولار الحالي. لكن ما نراه هو أن كسينجر، ثعلب القرن العشرين، يضطر وهو في نهايات عمره أن يذهب للصين مستجدياً بحث مصير الدولار الأمريكي وإيجاد حلول وسط.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1139