من الأحادي إلى ثلاثي الأبعاد: عالم ما بعد بريتون وودز
ياروسلاف ليسوفوليك ياروسلاف ليسوفوليك

من الأحادي إلى ثلاثي الأبعاد: عالم ما بعد بريتون وودز

كانت بداية عام 2023 علامة على سلسلة من التصريحات التي أطلقها ممثلون عن دول بريكس والمتعلقة بإنشاء عملات جديدة. تحديداً دعوة الرئيس البرازيلي (لولا) إلى إنشاء عملة مشتركة بين مجموعة دول مجموعتي بريكس وميركسور، بينما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن إنشاء عملة مشتركة لبريكس سيكون على جدول أعمال مؤتمر بريكس، الذي سيعقد في جنوب إفريقيا هذا العام. وحتى لو كان العديد من هذه التغييرات في نظام النقد الدولي سيأخذ وقتاً، فهذا التحوّل يتضح بشكل متزايد. النظام النقدي الدولي الجديد سيتجه بشكل متزايد نحو العملات الإقليمية، التي تطمح لاحتلال مركزٍ في الاحتياطي العالمي إلى جانب تشكيلة العملات المختارة للاقتصادات المتقدمة. قد يوفر نظام نقدي دولي تلعب فيه عملات أقاليم العالم النامي دور العملات الرئيسية، فرص اختيار أكبر ويقلل الاعتماد على بضع عملات مختارة.

ترجمة: قاسيون

إنّ النظام المالي العالمي المجزأ الذي يتألف بشكل شبه حصري من العملات الوطنية، يترك مجالاً للاعتماد المفرط على عملة الاقتصاد المهيمن، وهذا بدوره يخلق نقاط ضعف كبيرة. ورد في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير: «على الرغم من نقاط الضعف في نظام الاحتياطي الحالي، فإنّ أيّة تحولات كبيرة بعيداً عن الوضع الراهن ممكنة فقط عندما تكون هناك بدائل قابلة للتطبيق عن العملات المهيمنة». هذا الاعتراف من قبل الصندوق بالضعف في النظام النقدي الحالي– رغم شرط ظهور بدائل– هو شهادة مهمة على الشكوك المتزايدة بشأن «عِصمة» النظام النقدي الحالي. تتمثّل إحدى طرق النظر إلى بعض أوجه القصور هذه في إدراك أنّ التضخم المرتفع في الاقتصادات المتقدمة، يعمل حالياً على تقويض قيمة ديون الدولة لهذه البلدان– انخفضت نسبة ديون الولايات المتحدة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2022 ما يقرب 9٪ من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بالربع الأول من عام 2021، على خلفية تضخم إجمالي الناتج المحلي الاسمي «بسبب نمو الأسعار». هذا الانخفاض في قيمة الدَّين العام للولايات المتحدة يؤثر سلباً على حيازات الاحتياطيات لتلك البلدان، التي اختارت الاستثمار بكثافة في الأصول المقومة بالدولار.
للتغلب على هذه التبعية العالية، والتشظي في فضاء العملات في بلدان الجنوب العالمي، يمكن للبلدان النامية أن تشكّل كتل عملات أكبر– سواء كانت إقليمية «كما هو الحال مع العملة المقترحة لبلدان ميركسور» أو عابرة للإقليم «كما في سلّة عملة بريكس ار5 المقترحة». قد تؤدي عملية تجميع اتحاد العملات عبر دول الجنوب العالمي هذه في حال استمرارها إلى تكوين عملات ذات وزن اقتصادي كافٍ، من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وحجم احتياطي الأعضاء الذين يستحقون إدراجهم في مجموعة عملات الاحتياطي العالمي.
قد يكون هناك ما لا يقل عن ثلاث عملات إقليمية عبر دول الجنوب ذات وزن اقتصادي كافٍ لإدراجها في مجموعة العملات الاحتياطية العالمية: عملة احتياطي مشتركة في أمريكا اللاتينية، وعملة احتياطي إفريقي مشترك، وعملة احتياطي آسيوية مشتركة.
تم بالفعل إطلاق مسار أمريكا اللاتينية من قبل (لولا دا سيلفا) في البرازيل، وفي إفريقيا يبشر تشكيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وكذلك البروز العالمي المتزايد للاتحاد الإفريقي بالتحرّك تدريجياً نحو تنسيق أكبر في السياسات الاقتصادية، سواء من الناحية الوطنية في القارة، أو في تنسيق تكاملها الإقليمي وترتيبات العملة. في آسيا تمّ بالفعل الكشف عن العديد من المقترحات في السنوات العديدة الماضية، بما في ذلك إمكانية إنشاء عملة موحدة لعموم آسيا، بالإضافة إلى عملة مشتركة لأعضاء منظمة شنغهاي للتعاون.
تتمتع جميع هذه العملات الإقليمية بالقدرة على تحمل وزن اقتصادي وحجم كافيين في شكل مجموعات إقليمية متكاملة لكل منها، لتمكينها من الوصول إلى وضع العملة الاحتياطية العالمية. يتم توسيع إمكانية أن تصبح العملات الإقليمية جزءاً لا يتجزأ من النظام المالي العالمي، من خلال الاختيارية في نماذج العملات الإقليمية/ الاتفاقات الإقليمية في المجال النقدي، والتي قد تشمل: سلالاً إقليمية، وعملات إقليمية تحل محل العملات الوطنية، وخطوط مقايضة إقليمية، وعملات إقليمية رقمية وسلال عملات، ووحدات محاسبة إقليمية.

المرساة أو النقطة المرجعية

ستحتاج العملات الجديدة، سواء كانت إقليمية أو عبر إقليمية، إلى مرساة أو نقطة مرجعية وهي الدور الذي تمّ حتى الآن ملؤه بالدولار الأمريكي واليورو. إنّ صعود الصين كشريك تجاري رئيسي لاقتصادات الجنوب العالمي، يعني أنّ الوقت ربّما حان لتقوم الاقتصادات النامية بتغيير نقطتها المرجعية بعيداً عن الدولار واليورو ناحية اليوان و/أو عملة احتياطي البريكس «والتي سيلعب اليوان فيها دوراً كبيراً». يمكن للاقتصادات النامية التي لديها أنظمة أسعار صرف ثابتة، أن تأخذ باعتبارها التوجه نحو ربط عملاتها بسلة البريكس و/أو استخدام هذه العملة الجديدة بشكل متزايد كوحدة محاسبية. من شأن هذا أن يتوافق بشكل جيد مع اتجاهات العقد الماضي، التي اتسمت بالأهمية المتزايدة للتجارة فيما بين بلدان الجنوب.
قد تحتاج النقطة الأخيرة إلى بعض التفصيل. لعقود من الزمن تميزت أنماط التداول في الاقتصادات النامية إلى حد كبير بحصص عالية من التجارة مع الاقتصادات المتقدمة الرائدة، مثل: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تشير مؤشرات نموذج الجاذبية الذي يتتبع كثافة التجارة إلى المسافة بين البلدان ووزنها الاقتصادي «كمقاييس حسب الناتج المحلي الإجمالي» إلى أنّ هناك إمكانات هائلة لتعزيز التجارة الإقليمية. إنشاء عملات إقليمية، مثل: الخطة لإطلاق العملة الرقمية لأمريكا اللاتينية SUR من شأنه أن يعمل على تحقيق هذه الإمكانات للتجارة الإقليمية بين بلدان الجنوب لصالح النمو الاقتصادي العالمي.
يجب أن تشمل الركائز الأساسية الثلاث لنظام نقدي دولي متجدد مبادئ ما بعد بريتون وودز التالية:
1) كسر الاحتكار: أن يبنى النظام على مجموعة من العملات الاحتياطية التي تشمل عدداً من العملات الإقليمية، بالإضافة إلى سلال عملات عابرة للإقليمية محتملة، والنمط الناتج هو نمط تعايش للعملات الاحتياطية بدون نمط «مركز وأطراف» في النظام النقدي العالمي.
2) نزع التسليح: سيحتاج النظام النقدي العالمي الجديد أيضاً إلى احتواء «شرط إزالة التسليح» كأحد أسسه الرئيسية، حيث ستحتاج العملات الاحتياطية إلى تحمّل تأكيد قانوني على عدم استخدام هذه العملات في فرض العقوبات أو القيود الأخرى.
3) التخلص من التضخم: مع تبدد «الامتياز المفرط» لعملات محددة ستتبدد الهشاشة التضخمية في النظام النقدي العالمي. في الوقت نفسه، ستبدأ الميزة التنافسية في النظام النقدي العالمي في الانجذاب نحو العملات المدعومة بشكل موثوق بالاحتياطيات والموارد.
إنّ النظام النقدي العالمي الحالي، هو سبب عدم قدرة الخروج من المأزق بعد، والهشاشة التي يمتاز فيها لصالح العملة المهيمنة قد أدت إلى زيادة وتيرة الانكماش العالمي على مدار العقود الماضية العديدة. يتمثل أحد المسارات الرئيسية للخروج من قيود نظام بريتون وودز الحالي في توسيع مجموعة العملات الاحتياطية مع العملات الإقليمية الجديدة، التي يمكن أن تظهر في الجنوب العالمي. لا يمكن فصل النظام النقدي الدولي المتطور عن التقدم المستقبلي للاقتصاد العالمي، بما في ذلك هيكله التجاري وأنماط تدفق الاستثمار.

بتصرّف عن:
From unidimensional to 3D: the contours of the post-Bretton Woods world

معلومات إضافية

العدد رقم:
1110