حتى صندوق النقد يخشى تأثير العقوبات الغربية على روسيا
نشرت «مدوّنة صندوق النقد الدولي» مقالاً يتحدث عن العقوبات المفروضة من الغرب على روسيا، وآثارها المدمرة على الاقتصاد العالمي، ويعتبر بأنّ الوقت حان «للتفكير في الآثار المترتبة على الإكراه الاقتصادي على الاستقرار الاقتصادي العالمي» ما يكشف في العمق أنّ النخب الإمبريالية اليوم غير قادرة على الاتفاق على وسيلة لمواجهة واقع أنّ الدول ترفض بشكل متزايد الانصياع، وأنّهم لم يعودوا قادرين على تركيعها.
ترجمة: قاسيون
ورغم أنّ الكاتب يحاول في نهاية المقال إعطاء الانطباع بأنّ لدى الغرب القدرة على التضافر «للتخفيف أو لتجنّب» الآثار الكارثية للعقوبات على روسيا على العالم الغربي، فمن الواضح أنّ «الإرشادات والنصائح» التي يسوقها غير قابلة للتحقيق اليوم، وليست أكثر من هلوسات عولمة فقد فيها الغرب- الجَشِع- قدراته على الهيمنة لصالح الاقتصادات الصاعدة، التي تعلم وزنها الحقيقي على الساحة العالمية. كمثال: كيف يمكن للغرب المتداعي أن يستثمر في البنية التحتية في البلدان النامية وهو غير قادر على الاستثمار في هذه البنية في بلاده كما ينبغي؟ أو كيف بالإمكان لهذه الدول الغربية أن تنسّق وتخفف طلبها على الغذاء والطاقة، وهي بالفعل تواجه مشاكل في تأمين حاجتها من الطاقة، أو في لجم شركاتها عن رفع أسعار المواد الرئيسية ومنها: الغذائية؟ وربّما من أكثر «النصائح» هزراً هي تقليل «المزايدات التنافسية»، وكأنّ بإمكان النظام الرأسمالي الإمبريالي إيقاف حمّى المضاربات التي تخدم فكرة «الربح الأقصى» بالنسبة لمن وصل حدّ إعادة شراء أسهمه ليرتفع ثمنها!
يقول مولدر: منذ ثلاثينات القرن الماضي، لم يتم وضع اقتصاد بحجم روسيا تحت مجموعة واسعة من القيود التجارية مثل تلك التي فرضها الغرب. ولكن على عكس إيطاليا واليابان في الثلاثينات من القرن الماضي، تعد روسيا اليوم مُصدّراً رئيسياً للنفط والحبوب والسلع الأساسية الأخرى، كما أنّ الاقتصاد العالمي أكثر تكاملاً. نتيجة لذلك، فإن عقوبات اليوم لها آثار اقتصادية عالمية أكبر بكثير من أي شيء نشهده من قبل. وينبغي أن يدفع حجم هذه العقوبات إلى إعادة النظر في استخدام العقوبات كأداة لما لها من آثار اقتصادية عالمية كبرى.
العقوبات ليست المصدر الوحيد للاضطرابات في الاقتصاد العالمي. ارتفعت أسعار الطاقة منذ العام الماضي، حيث واجه التعافي الاقتصادي من الوباء سلاسل التوريد المثقلة بالأعباء. وارتفعت أسعار الغذاء العالمية 28٪ في 2020، و23٪ في 2021، وزادت 17٪ هذا العام بين شباط وآذار وحدهما. أضرّت الحرب أيضاً بأوكرانيا بشكل مباشر، حيث أدى القتال إلى إغلاق موانئ البلاد على البحر الأسود، ومنع صادراتها من القمح والذرة وزيت عباد الشمس وسلع أخرى.
تم تضخيم آثار فقدان الإمدادات الأوكرانية من خلال صدمتين أكبر: العقوبات التي فرضتها 38 حكومة من أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا على روسيا، وردود فعل الشركات والبنوك العالمية على تلك الإجراءات. لقد أعاق هذا الوابل من القيود- القانونية والتجارية والمالية والتكنولوجية- بشكل كبير وصول روسيا إلى الاقتصاد العالمي. كما أنها زادت بشكل كبير من نطاق السلع التي لم تعد تجد طريقها إلى الأسواق العالمية المعتادة. تضافرت العقوبات الشاملة ضد روسيا مع أزمة سلسلة التوريد العالمية، واضطراب التجارة الأوكرانية في زمن الحرب لإحداث صدمة اقتصادية قوية بشكل فريد. ومن شأن عقوبات إضافية على صادرات النفط والغاز الروسية أن تزيد من حدة هذه الآثار.
فئة مختلفة
إن إلقاء نظرة على القرن الماضي من التاريخ الاقتصادي يجعل هول العقوبات ضد روسيا أكثر وضوحاً. حتى أقوى العقوبات في فترة الحرب الباردة، مثل: عقوبات الأمم المتحدة والعقوبات الغربية ضد روديسيا «زيمبابوي حالياً» وجنوب إفريقيا في زمن الفصل العنصري، أو العقوبات الأمريكية على كوبا وإيران، لم تستهدف الاقتصادات الكبيرة. بعض العقوبات الغربية المعمول بها حالياً أكثر صرامة من تلك التي تستهدف روسيا- خاصة تلك المتعلقة بإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا. لكن هذه الدول لها وزن أقل بكثير في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية.
إن تأثير العقوبات على روسيا ينتمي إلى فئة مختلفة تماماً. روسيا هي الاقتصاد الحادي عشر في العالم، ودورها كمصدّر رئيسي للسلع الأساسية بين الأسواق الناشئة يمنحها مكانة هيكلية مهمة. من بين الاقتصادات المتقدمة، تمتلك الولايات المتحدة وكندا وأستراليا فقط بصمة مماثلة في أسواق الطاقة والزراعة والمعادن العالمية. علاوة على ذلك، منذ نهاية الحرب الباردة، أصبح لدى روسيا اقتصادٌ منفتحٌ للغاية، حيث بلغت نسبة التجارة إلى الناتج المحلي الإجمالي 46٪، وفقاً لبيانات البنك الدولي. من بين أكبر سبعة أسواق ناشئة، كان للمكسيك وتركيا فقط حصص أعلى في عام 2020 «78٪ و61٪».
في القرن الماضي، كانت الثلاثينات العقد الوحيد الذي يمثل سابقة لفرض عقوبات على دول لها وزن مماثل في الاقتصاد العالمي. في غضون ستة أسابيع من غزو بينيتو موسوليني لإثيوبيا في أكتوبر 1935، وضعت عصبة الأمم حزمة عقوبات ضد إيطاليا، ثامن أكبر اقتصاد في العالم. تم تنفيذه من قبل 52 من أصل 60 دولة ذات سيادة في العالم في ذلك الوقت. وشملت الإجراءات حظراً على الأسلحة، وتجميداً للمعاملات المالية، وحظر تصدير عدد من المواد الخام الحيوية للإنتاج الحربي. لكن الإجراء الأكثر أهمية كان فرض حظر على جميع الصادرات من إيطاليا. كان هذا ممكناً لأن العجز الهيكلي في الحساب الجاري للاقتصاد الإيطالي يعني أن مثل هذا الحظر يضر بإيطاليا أكثر مما فعل بالدول التي فرضت عليها العقوبات.
من تشرين الأول 1935 إلى حزيران 1936، انخفض الإنتاج الصناعي الإيطالي بنسبة 21.2٪، بينما في الأشهر الخمسة الأولى من العقوبات، تراجعت الصادرات بنسبة 47٪ قبل أن تستقر عند ما يقرب من ثلثي مستوى ما قبل العقوبات. أدى حظر العصبة على الواردات من إيطاليا إلى ارتفاع الأسعار الدولية للمواد الغذائية، مثل: اللحوم والفواكه والزبدة، وكذلك المواد الخام والمصنوعات، مثل: الصوف والمنسوجات والسلع الجلدية. لكن بشكل حاسم فشلت العقوبات في وقف الغزو الإيطالي لإثيوبيا، وذلك إلى حدّ كبير لأن الولايات المتحدة وألمانيا، أكبر وثالث أكبر اقتصادين في العالم، لم تكونا عضوتين في العصبة، ولم تنضما إلى العقوبات. نتيجة لذلك، واصلت إيطاليا استيراد الفحم والنفط، وتمكنت من تحمّل ثمانية أشهر من المشقة الشديدة.
كانت اليابان سابع أكبر اقتصاد في العالم في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، ودولة تجارية أكثر انفتاحاً من إيطاليا. بين صيف عام 1939 وآب 1941، فرض تحالفٌ متنامٍ من الدول الغربية عقوبات قللت تدريجياً من عدد الشركاء التجاريين المتاحين. تسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية في قيام الإمبراطورية البريطانية ومستعمراتها- ومَن تحت سيطرتها في آسيا والمحيط الهادئ «الهند وأستراليا ونيوزيلندا وكندا» - بتقييد صادرات المواد الخام الاستراتيجية وإعطاء الأولوية لها للاستخدام داخل الإمبراطورية.
بحلول نهاية العقد، كانت اليابان بالتالي أكثر اعتماداً من ذي قبل على واردات المواد الخام «خاصة النفط وخام الحديد والنحاس والخردة المعدنية» من أكبر اقتصاد في المحيط الهادئ، والذي بقي محايداً: الولايات المتحدة. ثمّ صعّدت الولايات المتحدة تدريجياً إجراءاتها الاقتصادية، حتى فرضت أخيراً حظراً نفطياً كاملاً مع الإمبراطورية البريطانية وهولندا. كما جمدت احتياطيات الين الموجودة في الولايات المتحدة بحلول أواخر عام 1941، انخفضت التجارة اليابانية بنسبة 20 إلى 25٪ في 18 شهراً فقط. في مواجهة انهيار وصولها إلى الواردات الرئيسية، هاجمت اليابان الولايات المتحدة والمستعمرات الأوروبية في جنوب شرق آسيا لتأمين المواد الخام التي تحتاجها للحفاظ على آلة الحرب. في حين أنّ إيطاليا تحمّلت العبء الأكبر من الحظر المفروض على صادراتها، ممّا قلل من قدرتها على كسب النقد الأجنبي، فقد تضررت اليابان بشدة بسبب تجميد الأصول الأجنبية، وفرض حظر على قدرتها على الحصول على الواردات الحيوية من شريكها التجاري الكبير المتبقي.
يظهر الرسم البياني أنّ حصّة التجارة من المخرجات العالمية هي أعلى اليوم بكثير ممّا كانت عليه في ثلاثينات القرن الماضي، حيث كانت تدور بين 5 إلى 8٪، بينما وصلت في عام 2019 إلى 25٪ من الناتج الإجمالي العالمي.
البيئة العالمية
لقد قوضت صدمة الكساد الكبير الكثير من الثقة والتعاون اللذين كانا يدعمان الاستقرار السياسي الدولي. تصاعدت الحروب التجارية إلى خلافات دبلوماسية، مما أدى إلى ظهور اتجاه نحو تشكيل تكتلات سياسية واقتصادية. بصفتها وصياً لنظام ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان على عصبة الأمم فرض عقوبات على الدول التي كانت تهدد السلام العالمي. أظهرت العقوبات احتفاظ القوى الغربية بثقل كبير في الاقتصاد العالمي. لكنّ الظروف غير المواتية للكساد، وانعدام التعاون المالي والنقدي الدولي، عنيا أن العقوبات أدت إلى مزيد من التوترات، ولم تكن في نهاية المطاف قادرة على الحفاظ على السلام.
ما يُظهره تاريخ ما بين الحربين، هو أن البيئة الاقتصادية العالمية تحدد الشكل الذي يمكن للعقوبات أن تتخذه وتشكل آثارها. تميز الكساد بأزمة زراعية وانهيار نقدي وتراجع في التجارة. أدّت هذه التطورات إلى تقليص الصادرات العالمية، وتجزئة تكتلات العملات، وقادت إلى انكماش الأسعار العالمية في معظم الفترة بين عامي 1928 و1939. من ناحية، كان هذا يعني أن عائدات التصدير كانت أقل، وكذلك تكلفة الفصل. ومن ناحية أخرى، جعلت الواردات أرخص، مما ضمن مستوى أساسياً من الوصول المستمر إلى المعادن والمواد الغذائية والطاقة. تم فرض العقوبات في عالم يتزايد فيه الاكتفاء الذاتي، حيث انخفض الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الوطنية إلى أدنى حد له على الإطلاق. وهكذا لم تتسبب العقوبات في الثلاثينات من القرن الماضي إلا بضررٍ معتدلٍ للاقتصاد العالمي المنهك بالفعل.
على النقيض من ذلك، فإنّ نسبة التجارة العالمية إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى بكثير اليوم، وهي مدعومة بنظام مالي عالمي قائم على الدولار. بدلاً من الانكماش، تعاني الأسواق في جميع أنحاء العالم من ضغوط تضخم قوية. تولّد أسعار السلع المرتفعة مكاسب غير متوقعة للمصدّرين، مع تشجيع الاقتصادات المستوردة للطاقة على التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. وفي الوقت نفسه، فإنّ تكامل الأسواق المالية المتزايد يجعل تدفقات رأس المال من الاقتصادات المتقدمة حاسمة للنمو والاستثمار في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية. يتمتع الاقتصاد العالمي اليوم بمرونة كبيرة نتيجة لهذا الاعتماد المتبادل، حيث يمكن الحصول على الواردات من أماكن أكثر. ولكنه يحتوي أيضاً على نقاط ضعف أكبر، كالنقاط العقديّة في تدفقات السلع والمعاملات المالية.
التكاليف مقابل المخاطر
نتيجة هذه التغييرات، هي أن عقوبات اليوم يمكن أن تسبب خسائر تجارية أكبر من أي وقت مضى، ولكن يمكن أيضاً في الوقت نفسه اعتبار أنّ العقوبات الحديثة أقل تهديداً مباشراً ممّا كانت عليه في الثلاثينات، ممّا يقلل من مخاطر التصعيد العسكري. ومع ذلك، فقد أدى تكامل السوق على نطاق أوسع إلى توسيع السبل التي تنتقل من خلالها صدمات العقوبات إلى الاقتصاد العالمي. وبالتالي، فقد أدت عولمة القرن الحادي والعشرين إلى زيادة التكاليف الاقتصادية لاستخدام العقوبات ضد الاقتصادات الكبيرة عالية التكامل. كما ضاعف من قدرة البلدان- المفروضة عليها العقوبات- على اعتماد مبدأ الرد والاستجابة الاقتصادية والتكنولوجية بدلاً من الانتقام العسكري. بشكل عام، تغيرت طبيعة مخاطر وتكاليف العقوبات.
أصبح من الواضح بسرعة، مدى أهمية الآثار غير المباشرة للعقوبات المفروضة على البلدان في الطبقة العليا من الاقتصاد العالمي. بينما تُزيل العقوبات صادرات السلع الروسية من الأسواق العالمية المعتادة، ترتفع الأسعار، مما يضغط على فواتير الاستيراد، ويقيّد المالية العامة لأسواق قوى السوق الناشئة، والبلدان النامية المستوردة الصافية للسلع الأساسية. ممّا لا يثير الدهشة أنّ هذه البلدان هي بالضبط التي لم تنضم إلى العقوبات ضد روسيا، لأنها الأكثر عرضة لخطر أزمة ميزان المدفوعات، إذا تمّ تشديد العقوبات على الصادرات الروسية على مدى فترة طويلة.
يجادل كثيرون، بأنّ صانعي السياسة اليوم يمتلكون كل ما يحتاجون إليه لتجنب تكرار ما حدث في الثلاثينات. تواجه العديد من اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية مجموعة حادة من المشاكل: ارتفاع الديون، وارتفاع تكلفة الانتقال إلى الطاقة المتجددة، وارتفاع أسعار الفائدة، والركود التضخمي العالمي. يتعيّن على مجموعة الدول السبع وحكومات الاتحاد الأوروبي التي تفرض العقوبات أن تأخذ على محمل الجد القدرة على تزويدها بالدعم الاقتصادي من عدمه، وما قد ينتج عن عدم فعل ذلك.
من مصلحة رفاهية سكان العالم واستقرار الاقتصاد العالمي، اتخاذ إجراءات متضافرة لمواجهة تداعيات العقوبات المفروضة على روسيا. يمكن أن يساعد عدد من تعديلات السياسة. أولاً: يجب أن تركز الاقتصادات المتقدمة على الاستثمار طويل الأجل في البنية التحتية لتخفيف ضغوط سلسلة التوريد، بينما ينبغي على اقتصادات الأسواق الناشئة والبلدان النامية أن تجعل دعم الدخل أولوية. ثانياً: يجب على البنوك المركزية في الاقتصاد المتقدم تجنب تشديد السياسة النقدية بسرعة لمنع هروب رأس المال من الأسواق الناشئة.
ثالثًا: يمكن معالجة مشاكل الديون وميزان المدفوعات التي تلوح في الأفق في الاقتصادات النامية، من خلال إعادة هيكلة الديون، وزيادة مخصصات حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي، وهو نوع من العملات الاحتياطية الدولية. رابعاً: يجب أن تمتد الإغاثة الإنسانية إلى الاقتصادات المتعثرة، وخاصة في شكل غذاء ودواء. خامساً: يتعين على الكتل الاقتصادية الكبرى في العالم أن تبذل المزيد من الجهد لتنظيم طلبها على الغذاء والطاقة، لتقليل ضغوط الأسعار الناجمة عن الاكتناز والمزايدات التنافسية.
ما لم يتم وضع مثل هذه السياسات موضع التنفيذ في الأشهر القليلة المقبلة، فإنّ القلق الشديد بشأن التوقعات الاقتصادية العالمية لعام 2022 وما بعده سيكون له ما يبرره. لقد حان الوقت للتفكير في الآثار المترتبة على الإكراه الاقتصادي على الاستقرار الاقتصادي العالمي.
بتصرّف عن:
THE SANCTIONS WEAPON
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1077