حوض الفرات... نصف مساحة البلاد بين (حبس) النهر والجفاف الدوري

حوض الفرات... نصف مساحة البلاد بين (حبس) النهر والجفاف الدوري

للعام الثاني على التوالي تُخفّض تركيا في هذا الوقت من العام منسوب نهر الفرات، لتقل كميات التدفق المائي الداخلة عبر النهر بنسبة 40% عمّا هو متفق عليه في آخر تفاهم بين تركيا وسورية... حبس المياه وتخفيض منسوبها أصبح متكرراً، ولكن وقعه وتأثيره يختلف من عام لآخر، وفقاً لمستوى وفرة الأمطار، فالبلاد متروكة دون إدارة مائية شاملة لعقود بما لا يتناسب مع مستوى التدهور المائي السوري السريع.

يجري التخفيض التركي في هذا الوقت من العام، ونحن تقريباً في ذروة استهلاك الري، حيث تجري الرية الأخيرة للقمح المروي، وتبدأ زراعة القطن، وهما المحصولان الأكثر استهلاكاً للمياه في سورية، واللذان يُزرعان بمعظمهما في مناطق حوض النهرين السورية.

الفرات بالنسبة لسورية مسألة عالية الحساسية، فرغم أن الأراضي السورية التي تعتبر حوضاً للنهر لا تشكل إلا نسبة 11% من حوضه الكامل، إلّا أنه ضمن هذا الحوض ورافده الخابور مساحة 96,4 كم مربعاً، تشكل أكثر من نصف مساحة سورية!
كما أن موارد النهر المائية تشكّل نسبة 45% تقريباً من مجمل المتاح السوري، وتصل إلى 65% بين حوضي الفرات والخابور... ومن أصل 19 مليار متر مكعب متاح سنوياً، ساهم الحوضان بحوالي: 12 مليار متر مكعب، وذلك وفق تقديرات 2011-2012.

الاتفاقيات غير المطبّقة

مشكلة مياه النهرين قديمة، ولم تُحل تاريخياً بشكل منجز في ظل العلاقة المتوترة دائماً بين دول الجوار، الاتفاق الوحيد المعقود بين تركيا وسورية جرى في عام 1987 وتسميه أدبيات الأمم المتحدة (اتفاق غير رسمي)، تعهدت وفقه تركيا بضمان ألّا يقل التدفق عن 500 متر مكعب في الثانية، ولم تلتزم به في العديد من السنوات. ولاحقاً في التسعينات وسّعت تركيا سدودها على الفرات، وأكبرها سد أتاتورك بسعة تخزينية أربعة أضعاف سعة سد الفرات.
وهنالك أيضاً اختلاف على التوصيف القانوني للفرات ودجلة، فبينما ينبغي اعتبارهما نهرين دوليين وفق التصنيفات الدولية، إلّا أن تركيا ترفض هذا التصنيف وتصنفهما كمياه عابرة للحدود باعتبارها دولة منبع، الأمر الذي بناءً عليه، تتيح تركيا لنفسها التحكم بكميات المياه المتدفقة، وتوسيع السدود ومشاريع المياه والري على الأحواض التركية للنهرين، حيث يقدّر البعض وصولها إلى أكثر من 200 سد، حيث تجمع تركيا 93% من سعة السدود على النهرين.

موسم الأمطار في الحوض تراجع 60%

تتكشف حدّة التراجع باختلاف موسم الأمطار، وفي العام الحالي انخفض مستوى مياه النهر خمسة أمتار وسطياً كنتيجة لتراكب الأمرين التخفيض التركي، وضعف تدفق الينابيع نتيجة موسم الأمطار المنخفض. وهو مستوى انخفاض غير مسبوق أوقف محطات ضخ مياه، ومحطات توليد كهرباء، وعطّل عمليات الري في مناطق واسعة.
التأثير على الري قد يطال أكثر من 300 ألف هكتار تُروى من مياه الأنهار مباشرة ومن المشاريع المائية الحكومية على الأنهار في مناطق عبور النهر بين حلب، الرقة، الحسكة ودير الزور ولكن التأثير قد يكون أقل من ذلك لأن جزءاً من هذه المساحات مزروع بمحاصيل لا تروى حالياً.
ولكن المشكلة في العام الحالي تظهر بشكل كبير أثّر على قدرة محطات ضخ المياه على تأمين حاجات المناطق السكنية، ليترافق هذا مع الموسم المنخفض جداً للأمطار في العام الحالي، الذي سيحمل تأثيراته الواسعة على المحاصيل البعلية، وتحديداً على القمح.
موسم الأمطار بين آيار الحالي والماضي أقل من المعدل السنوي بما يقارب 60% في المناطق الواقعة ضمن حوض النهر، والتراجع الأكثر حدّة في دير الزور وريفها، ففي البوكمال كميات الأمطار الهاطلة في الموسم الحالي أقل من المعدل بنسبة 93%، وفي دير الزور بنسبة 67%، في تل أبيض 66%، بينما في القامشلي والحسكة 56%- 45% على التوالي.
وهذا الانخفاض الحاد في هذا العام قابله موسم مطير نسبياً في العام الماضي، حيث كان وسطي معدل الأمطار في مناطق الحوض أعلى من المعدل السنوي بنسبة 17%، وسجلت معظم مناطق الشمال والشمال الشرقي السوري في العام الماضي معدلات أعلى من المعدل السنوي للأمطار. الأمر الذي جعل التخفيض التركي المطبّق في العام الماضي أقل تأثيراً.
سيحمل هذا العام الجاف تأثيرات واسعة جداً على محاصيل بعلية أساسية، مثل: القمح والشعير، وقد تخفّض الغلة بنسبة تقارب 50% كما حصل مؤخراً في عام 2018.
إن لتراجع معدلات الأمطار تأثيراً أوسع على الزراعة، نظراً لأن نسبة المساحات البعلية ازدادت خلال سنوات الأزمة، ومحاصيل أساسية للأمن الغذائي أصبحت تعتمد على مياه الأمطار لتنتج إنتاجاً وافراً في عام ماطر، ويتراجع الإنتاج بمعدلات كبيرة في عام جاف. بينما لا يستطيع الإنتاج المروي بمساحاته الحالية أن يعوّض هذا النقص حتى في حال توفّر مياه الفرات.

1017-i1

سورية تحتاج إلى تغيير جذري في إدارة المياه

تتكرر موجات الجفاف وتراجع معدل الهطولات المطرية في سورية، ويصعب الوصول إلى تفاهمات جدية وشاملة حول مياه النهر، بينما تغيب نهائياً إمكانية إدارة أزمة المياه في سورية.
إدارة المياه في سورية تحتاج لمشاريع كبرى، ولحالة استقرار شاملة على مستوى كل البلاد... فعدا عن التفاوض السياسي الضروري للوصول إلى اتفاقات نهائية وعادلة مع تركيا حول الموارد المائية للفرات. فإنّ المهمات المائية المحلية ليست أقل شأناً: الموارد المائية المتجددة في سورية تقارب 16 مليار متر مكعب، وأقل من الحاجات بأكثر من 1 مليار متر مكعب على الأقل. وهذه الموارد في تناقص تحديداً مياه الينابيع والمياه الجوفية المستنزفة بمعدلات حادة عبر عمليات الري من الآبار وعدم تطوير أية أداة من أدوات إدارة المياه.
وبالمحصلة، فإن سورية خلال عقدين من الزمن تراجعت حصة الفرد فيها من المياه بنسبة 94% بين عامي 1992-2012!
مهمات كبرى مطلوبة لإدارة المياه، مثل: إعادة هيكلة الزراعة كلياً لتتكيف مع إمكانات الري، حيث تستهلك الزراعة قرابة 80% من الموارد المائية المتاحة، فالمختصون يقترحون مثلاً: تقليص مساحات القطن في سورية مقابل تحسين إنتاجيته في المساحة، إضافة إلى إنجاز (البدهيات) مثل: الاستثمار في عمليات الري الحديثة عوضاً عن الري بالغمر الذي لا يهدر الماء فقط، بل يعتبر من أهم مسببات تملّح التربة في حوض الفرات تحديداً. وصولاً إلى إمكانات وآليات الاستفادة من مياه الأمطار السنوية التي تصل إلى 46 مليار متر مكعب وسطياً، بينما لا يستثمر منها إلا 9- 10 مليارات! وغيرها الكثير...
إن أزمة المياه مع تركيا الممتدة منذ عقود ليست مشكلتنا المائية الوحيدة التي تحتاج إلى حلول شاملة سياسية الطابع، بل الأهم هو: إعادة تخطيط الزراعة والصناعة وحتى المدن على أساس إمكانات المياه المتقلصة. وما يجري اليوم هو فوضى متسّعة وشاملة تجفف مياه المستقبل.

 

English copy

معلومات إضافية

العدد رقم:
1017
آخر تعديل على الجمعة, 25 حزيران/يونيو 2021 21:19