المرحلة الانتقالية الدولية... أولاً مصير الدولار
الأزمة الاقتصادية الدولية التي تبدّت أول موجة انفجار لها في 2007 وثاني انفجار لها في 2020، سرّعت ظهور التغيرات في موازين القوى الدولية، وإثر ذلك يُعاد تشكيل السياسة الدولية بمخاض انتقالي طويل وصعب نعيشه اليوم... ولكن: (إلى متى)؟! سؤال تصعب الإجابة عنه، ولكن يمكن القول: إنّ مفاصل حاسمة في عالم اليوم تحدّد المسارات وطابع الحركة: هل سيستمر العالم بالتقدم بالنقاط أم بالقفزات؟
خطوط عريضة أصبحت من العموميات المتفق عليها: تراجع المنظومة الغربية يقوده تراجع الأمريكيين وهو ما أصبح يمثّل (العالم القديم)، وصعود القوى الدولية الجديدة في آسيا بالدرجة الأولى وتقودها الصين. ليمتد طيف هذا التناقض ويكون عاملاً أساسياً في التأثير على كل الجغرافيا السياسية العالمية المقسّمة موضوعياً إلى مجالات وأقاليم وكتل.
البعض يسمي المرحلة الحالية: نهاية الأحادية القطبية الأمريكية، وهو ما أصبح طور الإنجاز، بل ووراءنا في معظم الجوانب. بينما يصحّح آخرون قائلين بأن نهاية هذا المخاض لن تكون إلّا بتجاوز الأزمة العميقة للمنظومة الرأسمالية ذاتها، لننتقل إلى مستوى أعلى في بنية الإنتاج العالمي ينعكس بالعلاقات الدولية، حيث لا أقطاب... عالم أقرب للتكامل والاندماج في مستوى أرقى وأكثر إنسانية.
الدولار والتكنولوجيا والسياسة
لكن بين هذا وذاك، هنالك ما نحن فيه اليوم: صراع القديم المستميت للبقاء بكل أدوات (الدفاع الهجومي) الممكنة، ومحاولة الجديد شقّ الطريق بفتح الثغرات وبناء الحصون وترقّب لحظة مبادرة. هذه المرحلة التي قد تطول أو تقصر بناء على مفاصل أساسية تحسم موازين القوى بلا عودة... وتدفع (القديم) المتمثل بعدوانية الغرب والولايات المتحدة تحديداً لانكفاء سريع، وتسمح للمجتمعات ببناء نماذج أخرى.
وضمن هذه المفاصل الحاسمة في تحديد الآجال الزمنية وشكل المرحلة الانتقالية الدولية، هنالك ثلاثة جوانب هامة ومتداخلة، الأول: مصير الدولار، والثاني: التفوق والسبق التكنولوجي، والثالث: يتمثل بالعوامل الذاتية للمجتمعات، وتحديداً مستوى التنظيم والفعالية السياسية، التي قد تلعب دوراً في تسريع الحركة أو إبطائها... سواء لدى قوى العالم القديم أو القوى الصاعدة أو حتى لدى القوى الإقليمية المؤثرة في الأقاليم عالية الأهمية ضمن الصراع الدولي كمنطقتنا...
وسنبدأ الحديث عن أثر مصير الدولار على مسار الحركة لنستتبع الجوانب الأخرى في مقالات لاحقة.
ما الذي يعنيه مصير الدولار؟
مصير الدولار قد يكون أهم المفاصل المحددة للآجال الزمنية، فالدولار الذي يعكس سطوة القطاع المالي ومستوى الربح الذي يحققه، يكثّف عملياً الوزن النوعي للقطب الأمريكي والغربي في المرحلة الماضية الممتدة منذ منتصف الخمسينات والتي لم تكن التسعينات وانهيار الاتحاد السوفييتي إلّا ذروتها.
وعندما نتحدث عن مصير الدولار فالمقصود مباشرة احتمالات التراجع السريع في قيمته، وفقدان الثقة به باعتباره (الملجأ الآمن في الأزمات). الأمر الذي يرتبط بوظيفته كعملة تبادل واحتياطي دولية أساسية، مع كل ما اشتقّ عن هذا من بنية مالية معقدة وضخمة: فالدولار هو جزء أساسي من المخازن الاحتياطية لدول العالم بأكثر من 60%، وهو العملة الأساسية التي تُسعّر ديون الدول والشركات والعائلات عبر العالم، والتي تجاوزت ثلاثة أضعاف الناتج العالمي، وهو مصدر تضخّم القيم السوقية لأسهم الشركات الكبرى (التريليونية)، وهو عملة مئات التريليونات من المال الاستثماري العائم عالمياً في صناديق وشركات استثمار مالية وجنات ضريبية، وهو أداة تسعير السلع الأساسية عالمياً: النفط والغذاء والمعادن وغيرها... وفقاعته المتضخمة هذه هي جهاز الإنعاش الذي يستمر وفقه نمط المعيشة والإنفاق الغربي: المؤثر على دول المركز ودورها السياسي، والمجتمعات هناك ومستوى رفاهها، والاقتصاد وقدرته على الاستمرار دون الضخ المستمر للنقود الرخيصة!
منظومة الدولار العالمية هذه غير مصممة لتستدام، ولا يمكن لها ذلك... ويتفق الجميع أن أي اضطراب يمكن أن يؤدي إلى هذه الهزّة المالية الكبرى، والعالم يحبس أنفاسه ويستعد. والمؤشرات كثيرة، بدءاً من تصريحات بل تحذيرات الاقتصاديين والمستثمرين والبنوك الاستشارية الغربية التي تتراوح بين الحديث عن توقع انخفاض الدولار بنسبة 35% في عام 2021، وصولاً إلى الإشارات من المستثمرين الكبار لعدم الثقة بالدولار إلّا في الأجل القصير، واستبداله باستثمارات أخرى في الأجل الطويل.
والأهم، حديث صندوق النقد الدولي عن «بريتون وودز جديدة»، أي: عن لحظة التوافق على نظام نقدي دولي جديد عوضاً عن الاتفاق الذي وضع الدولار على العرش، إضافة إلى تخزين قوى العالم الصاعد للذهب، واتساع رقعة التداول بالعملات الأخرى تقودها الصين، وصولاً إلى ما قد يكون نواة المنظومة النقدية البديلة المتمثلة بالعملات الإلكترونية الصادرة عن البنوك المركزية... وهنا الرّيادة التامة للصين، بينما تلتحق البنوك المركزية الغربية.
الأمريكيون بين الرعونة والمرونة
المنظومة النقدية والمالية المتمثلة بالدولار، بمثابة النسيج الذي يغلّف العضوية الحيّة للاقتصاد العالمي... هذه البنية الحيّة التي تتطور وتحتاج (لتبديل جلدها)، ولكن لا يمكن أن تتم هذه العملية (بالسلخ) لأنها قد تؤدي إلى تقيّحات يصعب ترميمها. وسيكون جميع (عقلاء العالم) وقواه القابلة للاستمرار حريصين على (إدارة) انهيار الدولار وإزاحته.
المشكلة الأساسية في الإدارة العقلانية لإزاحة الدولار هي السياسة، أي: مصالح القوى الغربية والأمريكية تحديداً الأكثر ارتباطاً بوظيفة الدولار العالمية، والتي تدفع إلى الرعونة إذ لن يكون من السهل أن تتكيف مع هذه الخسارة وتراجع موقعها في سلم القوّة العالمي بسرعة، وستكون مستعدة لاستخدام سلاحها الدولاري بوسيلة تدميرية لتدفع القوى الأخرى في الغرب والشرق للتفاوض معها، ومحاولة حجز موقع في البنية القادمة.
ولكن عدا عن الرعونة ينبغي ألّا يغيب عن الذهن، أنّ قوّة الدولار الحالية (وإن كانت تحت الخطر) لا تزال تعطي الأمريكيين هامش مرونة ووقتاً لإعادة ترتيب الأوراق تكنولوجياً وسياسياً. فصحيح أن الأمريكان يستخدمون ضخ الدولار لمواجهة الأزمات، وهذا يزيد الخطر ويعجل انهيار الدولار... ولكن بالوقت ذاته يتحوّل جزء من هذه الكتلة إلى قوّة اقتصادية حقيقية. فبعد أزمة عام 2007-2008 ضخّ الفيدرالي ما يقارب 4 تريليونات دولار وتم إنقاذ البنوك، ولكن بالعمق تم الإنقاذ عبر استمرار النمو الأمريكي نسبياً، تجلّى مثلاً في قطاع النفط الصخري الأمريكي الذي سمح للأمريكان بمساحة تأثير أوسع على قطاع الطاقة الأحفورية، ومن جانب آخر تحول تدفق كبير من هذا التمويل إلى شركات التكنولوجيا الكبرى في قطاع المعلومات والاتصالات، وساهم في المحافظة على استثمار كبير معرفي وتكنولوجي في هذا القطاع الرائد، أبقى الولايات المتحدة رقماً حاسماً في التكنولوجيا العالية... وإن لم تستطع أن تواكب السرعة الاستثنائية للنمو والانتقال الصيني التكنولوجي خلال هذه المرحلة، إلّا أنها حافظت على موقع الصدارة في مجالات حساسة.
اليوم، ومع استمرار الضخ يتسع الحديث عن الاستثمار الواسع في البنى التحتية والطاقة البديلة في أمريكا... لتُعلن الإدارة الحالية عن نية استثمار في البنى والتحتية والطاقات البديلة قد يقارب 12 تريليون دولار، وذلك قبل أن (تأكل الصين غدائنا) وفق تعبير الرئيس الأمريكي بايدن عن السبق الصيني في مجال الاستثمار هذا.
هذه المحاولات هي مسعى لإدارة كتلة الدولار ومحاولة توليد النمو لكسب الوقت وتجهيز البدائل، كما تعكس وعياً أمريكياً بضرورة الإبقاء على ميزان قوى اقتصادي حقيقي أي: في قطاعات التصنيع العالية، والبنى التحتية وعموم الإنتاج الحقيقي... ولكن نجاح هذه المحاولات وضمن أية آجال زمنية لا يبدو أمراً سهلاً تحديداً في ظل انقسام الحكم الأمريكي والإدارة، وفي ظل تسارع تقدّم الآخرين، وفي ظل صعوبة التحكم بكتلة المال الهائلة والعمل تحت خطر الانفجار.
إنّ كل هذا التشابك يجعل الدولار قنبلة موقوتة، فالانهيار السريع قد يسرّع الحركة ولكن قد يهز كيانات ودول ومنظومات، ليكون ما نشهده من فوضى اليوم (مجرد نزهة)، أما التفكيك الدقيق والتدريجي فقد يبقي الدور الأمريكي السلبي وقتاً أطول ويدفعه لينحسر ببطء، ويسمح للعالم بمخرج أكثر أماناً وهدوءاً نسبياً. والأهم من هذا وذاك: أن خيارات الخروج التدريجي قد لا تكون بيد أحد الآن، وإمكانية التحكم بالأزمة وانفجارها أصبحت فوق الجميع... ولذلك فإن الجميع يتجهز للعاصفة، إن لم يستطيعوا تغيير مسارها وتفريغ شحنتها تدريجياً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1005