أيّ «صمود» دون «العدالة في الحرمان»؟!

أيّ «صمود» دون «العدالة في الحرمان»؟!

عقدت في المركز الثقافي في المزة ندوة اقتصادية بعنوان البناء الاقتصادي والتوزان الاجتماعي بتاريخ 5-1-2021، وكان لقاسيون مشاركة بها قدمتها محررة الشؤون الاقتصادية عشتار محمود، ننشر ما جاء فيها.

انتهى عام 2020 ولكن آثاره لن تمرّ، وهو العام الذي يمكن توصيفه على الصعيد السوري «بعام الجوع»، الكثير من الأرقام تُورد في هذا السياق، ومنها ما ذكره برنامج الغذاء العالمي WFP بأن الجوع طال 9 ملايين سوري، أي: أكثر من نصف السكان المتواجدين داخل البلاد. ولكن بعيداً عن الأرقام الدولية فإنه وفق حسبة قاسيون، فإن كلفة الغذاء الضروري لأسرة في دمشق قد أصبحت خمسة أضعاف الأجر الوسطي لمعيل الأسرة، وتحتاج العائلة إلى خمسة دخول لتأمين القدر الكافي من طعامها.

ووفق هذا المقياس العام يمكن القول: إن كل أسر العاملين بأجر في حالة فقر مدقع، وأسر أصحاب الأعمال الصغيرة ليست بأفضل بكثير... فمثلاً: وفق حسبتنا في العام المنصرم، فإن مزارع بندورة يمتلك بيتاً بلاستيكياً، حقق عائداً وسطياً إذا تمّ توزيعه على خمسة أشهر من العمل فإن الدخل الشهري لا يتجاوز 60 ألف ليرة أيضاً!

أزمة الغذاء تكثيف لحالة الحرمان

إن أزمة الغذاء هي تكثيف لحالة الحرمان، وقد يقول البعض: إننا نعيش ظرف عقوبات وحرب، وأن هذا «حال طبيعي» والمطلوب «الصمود». وبالفعل هنالك مجتمعات عانت من حرمان شديد، وصمدت وبقيت متماسكة، ولكن الشرط الأساس «للمقاومة والصمود» هو تحقيق مقولة: «العدالة في الحرمان»، ونقتبسها من د/ قدري جميل، وقد كررت على صفحات قاسيون منذ 2013، باعتبارها مفتاحاً أساسياً لإدارة اقتصاد الحرب والأزمات.

المجتمع السوري في حالة نقمة شديدة، ليس بسبب الحرمان فقط، بل بسبب غياب حالة: «العدالة في الحرمان»، والأمثلة كثيرة حول المفارقات الاجتماعية في واقع حال الناس اليوم.

الظلم يولّد النقمة، والحرمان يؤدي إلى اختلال التوازن، وربما تعبّر طبيعة الجرائم التي أصبحنا نشهدها في المجتمع السوري عن حجم التأزّم وآثاره، وكذلك ظاهرة تحول الأمل الوحيد للشباب بالخروج من البلاد، تشير إلى درجة الخطر.

لماذا تغيب العدالة... حتى في الحرمان؟

لماذا تغيب العدالة، حتى في الحرمان؟ الإجابة تكمن في قوانين الاقتصاد السياسي. إن وفرة أو عدم وفرة الموارد هو شرط لازم لتأمين وضع أفضل، ولكنه غير كافٍ فالنقطة الأساسية بكيفية تموضع هذه الموارد، الأمر الذي يتحدد على أساس العلاقات الاقتصادية، وبالدرجة الأولى الإجابة عن أسئلة:

مَنْ يملك؟ وكم يملك؟ وكيف يتصرّف بملكيته من الموارد؟

وهي تحدد بدورها الإجابة عن سؤال: من يعمل، وبماذا يتاح له أن يعمل، وماذا يحصل مقابل عمله؟

فعندما تكون ملكية الموارد الكبرى محصورة بعدد قليل جداً، ولهم حرية التصرف بها واختيار القطاعات الأعلى ربحاً، فالموارد عملياً تصبح غير متاحة للأساسيات. لأن القوانين الموضوعية أيضاً تقول: إن المال يلحق المال، ويسعى نحو المجالات ذات الربح الأقصى.

وعلى هذا الأساس فإن الموارد تتموضع في قطاعات مشوّهة في الظرف السوري، ولا يبقى ما يتسع لتوسيع الصناعة والزراعة وغيرها... وعلى أساسه أيضاً ينتقل الشاب من العمل في معمل أدوية براتب 70 ألف ليرة ووضع عمل غير مستقر، إلى حالة الارتزاق براتب شهري قد يزيد على 200 ألف ليرة!

لا تزال البضائع التركية تتدفق إلى سورية بمقدار يفوق مليار دولار سنوياً خلال سنوات الأزمة و تصل إلى جميع المناطق السورية وليس إلى إدلب فقط

«استثمارات أمراء الحرب»

الإجابة عن سؤال من يملك الموارد في سورية وكيف تتموضع غير متاحة بسهولة، وهي لم تكن يوماً معلومة متاحة؟ فحتى معلومات قطع الموازنة التي ينص الدستور على أن تصدره الحكومة لا يتم إصداره في الظروف الحالية، ولذلك من الصعب خروج معلومات من هذا النوع. ولكن يمكن أن نشير إلى بعض القطاعات المشوهة الرابحة ذات التأثير.

أولاً: الاستثمار في موارد الدولة أو المال العام، وهو أيضاً استثمار في العقوبات والأزمات. وفق تقديراتنا التي تعاقبت على صفحات جريدتنا، فإن كل مادة تستورد لصالح جهاز الدولة تسعّر بأسعار أعلى من الكلف العالمية بنسب تتراوح بين 40-100% وهذه الكلف هي رسوم مخاطرة يفرضها المستوردون نتيجة العقوبات، وتنحصر في نوادي الاستيراد المغلقة.

وبهذا المقياس، فإن المواد المدعومة التي خصصت لها الحكومة ما يقارب 4000 مليار ليرة في موازنتها يمكن أن تكون 2000 مليار منها ربحاً وتكاليف غير مفسّرة، هذا عدا عن النهب المباشر للمواد المدعومة الموّزعة. 

ثانياً: هنالك مجال التهريب، وأيضاً بحسبة أخرى فإن البضائع التركية التي لا تزال تتدفق إلى سورية بمقدار يفوق مليار دولار سنوياً خلال سنوات الأزمة، هي بضائع تصل إلى جميع المناطق السورية، وليس إلى إدلب فقط! ويمكن تقدير عوائد رسوم العبور سنوياً بما يقارب 500 مليون دولار. 

وبحالة التهريب يستوجب على الصناعة النسيجية مثلاً أن تنافس بضائع بلا رسوم، وأن تواجه قوى لديها مثل هذا الربح غير الشرعي من العبور، أو أن يكون عليها أن تستورد مستلزماتها عبر التهريب وتصدر بضائعها عبر التهريب لتحقق عائداً مقبولاً ومنافساً!

ثالثاً: وهو الأخطر الموارد التي تخصص في تجارة الممنوعات، مثل: حبوب الكبتاغون في سورية، وهنا نتحدث عن ربح قد يصل إلى 5000-7000% من فرق سعر الحبة في سورية، وسعرها في الإقليم... ما يفسّر وجود سوق قد تقارب قيمها 16 مليار دولار!

تتركز الكثير من الموارد اليوم في اقتصاد أمراء الحرب، وتنحجب هذه الموارد عن السوريين عموماً وحاجاتهم. ولذلك فإننا نقول ونكرر: إن إيجاد حلول اقتصادية للوضع السوري اليوم غير ممكن عملياً، لأن المسألة سياسية، ولا يمكن حلها إلّا عبر وزن اجتماعي يقابل أوزان هؤلاء ومصالحهم. سورية ستذهب إلى تسوية سياسية عاجلاً أم آجلاً، والتسوية لن تحل كل المشكلات، بل ستفتح الباب للمجتمع ليفرض مصالحه، ويحاول أن يحل المشكلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1000