الرأسمالية في حالة «سوبرنوفا» مسارات التدمير الذاتي تتفاعل

الرأسمالية في حالة «سوبرنوفا» مسارات التدمير الذاتي تتفاعل

الرأسمالية تواجه اليوم أعمق أزمة واجهتها خلال وجودها. التراجع العالمي قد بدأ وهو الآن يدمر حياة الملايين من القوى العاملة في كل القارات، والنتائج على العمال وفقراء العالم في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية أشد. النظام اليوم في حالة سوبرنوفا، حالة زوال النجم التي يسبقها السطوع العالي الناجم عن الانفجارات الداخلية الكبرى...

انخفاض معدل الربح وسعر الفائدة وتضخم المال والدَّين

لا يمكن فهم ما يجري اليوم دون العودة إلى الأزمة المالية التي بدأت في عام 2007 والتي كانت أكثر من أزمة مالية، والتي أعقبتها إجراءات اتخذتها مجموعة السبع الكبار والبنوك المركزية للإبقاء على استقرار شكلي، وتحديداً عبر أسعار الفائدة الصفرية، وهي إجراءات وصفت حتى من بنك غولدمان ساكس بأنها «كوكايين الأسواق المالية».
إن انخفاض أسعار الفائدة هي عملياً نتيجة عاملين: تراجع معدلات الربح، وتضخم رأس المال. أي ميله للتوسع بمستوى أعلى من قدرة العمال والفلاحين على تزويده بالدم الحي الذي يحتاجه ليحيا. هذان العاملان يشكلان مساراً فعالاً للتدمير الذاتي...
العديد من العوامل تشوش وتغطي على تراجع معدل الربح، تجعل هذا التراجع يأخذ طابع الميل ويُظهر نفسه بوضوح فقط في وقت الأزمات. من ضمن عوامل التغطية على تراجع معدل الربح انتقال الإنتاج من أوروبا وأميركا الشمالية واليابان إلى المواضع الأخرى عالميا،ً حيث معدل الاستغلال أعلى في الدول الأقل أجوراً. كما يظهر انخفاض معدل الربح في انتقال أموال أكثر لتستثمر في الماركات والتسويق وحقوق الملكية والعديد من النشاطات غير الإنتاجية عوضاً عن الاستثمار في الإنتاج مباشرة.
هذا التحول في النمط الاستثماري الرأسمالي ضَخّم الأرباح من تآكل الأجور أكثر مما ضخمها من بناء معامل جديدة وتطبيق تكنولوجيات جديدة، مؤدياً إلى تراكم ثروات أكبر لدى رأس المال غير الإنتاجي. بالنتيجة، فإن معدلات الفائدة تتراجع، طالما أن قوى رأس المال تتنافس فيما بينها لشراء المزيد من الأصول المالية، حيث ترتفع أسعار الأصول، وتنخفض عائداتها المتمثلة في الفوائد.
انخفاض معدل الربح، يؤدي إلى توسع القطاع المالي، ويؤدي بدوره لانخفاض أسعار الفائدة، وهي بدورها تؤدي إلى ظاهرتين:
تضخّم قيم الأصول المالية، وتراكم جبال من الديون، وهما وجهان لعملة واحدة. فكل أصل مالي هو ورقة دَين مترتبة على شخص آخر، وكل دَين هو أصل مالي للطرف المُقرض.
إن القيم المتضخمة للأصول، وتراكم الديون ترتبط بشكل عميق بتراجع الإنتاجية عالمياً، وتراجع النمو العالمي... وهي تتلاشى عندما يحصل نمو فعلي، ومنذ 2008 تراجعت الإنتاجية عبر العالم، ونمو الناتج أصبح أقل من أي عقد آخر منذ الحرب العالمية الثانية، وظهر ما أسماه نوريل روبيني «أمّ فقاعات الأًصول»، بينما الدَّين الإجمالي دَين الحكومات والشركات والأسر تراكم قبل 2008 وتضاعف منذ ذلك الحين.
بالمجمل، قبل أزمة كورونا كانت الرأسمالية العالمية تعاني من «مشاكل صحية حادة»، وكانت عملياً في العناية المشددة، وتتجهز لتصبح نجماً آفلاً، وتحديداً عبر تضخيم الأصول المالية ومراكمة جبال الديون. وكل ما فعلته البنوك المركزية العالمية منذ 2008 كان مصمماً ليؤجل يوم الاندلاع الجديد، ولكن هذا اليوم قد أتى.

مؤشرات نوعية اليوم وانخفاض الموثوقية في الدولار

بعض المؤشرات في الأزمة الحالية تشير إلى انخفاض الموثوقية بالدولار، وهي التي ترتفع عادة في وقت الأزمات. فسندات دَين الخزينة الأمريكية التي تستحق بعد 10 سنوات، كانت الجنة المالية الأكثر موثوقية للأصول المالية، وهي النقطة المعيارية التي تسعّر على أساسها الديون. وفي هذا الوقت من تعمق عدم اليقين وضعف الموثوقية، فإن المستثمرين الماليين ينسحبون عملياً وبسرعة من أسواق الأسهم المالية (مثل أسهم الشركات مثلاً) تجاه هذه الأصول الموثوقة، لترتفع قيمها وينخفض الدخل الذي تحققه هذه السندات، ويخفض معه أسعار الفائدة مجدداً.
ولكن منذ التاسع من آذار تغيرت هذه المعادلة، فعملياً رغم انخفاض أسعار الأسهم، فإن عائدات السندات بقيت ترتفع، أي أن قيم سندات الدولار لم ترتفع بالحد الكافي. ما يعني: أن الأموال تتوجه إلى أوراق مالية واستثمارات أخرى عوضاً عن هذه الأصول التي تحتاج إلى عشر سنوات لتستعاد، وهو دليل على انخفاض الموثوقية بالدولار خلال عقد قادم. وهو ما دفع بالبنوك المركزية لضخ كميات أكبر وإعطاء الحزم الإنقاذية بتريليونات الدولارات ليضمنوا تدفق الكاش في الأسواق.
ولكن حتى هذا لا يجدي الكثير من النفع، فأحداث شهر آذار 2020 قربت اليوم الذي تتراجع فيه ثقة المستثمرين في الدولار الكاش نفسه والأهم في قوة واقتصاد الدولة التي تقف خلفه، وحينها فإن لحظة أفول النجم تقترب.

الإنكار اليساري للإمبريالية، والإيمان في «شجرة المال السحرية»

مجموعات اليسار في الدول الإمبريالية، مثل: الحزب اليساري لجيرمي كوربن في بريطانيا، مجموعة الكينزيين اليساريين، مثل: آن بيتيفور، وبول ماسون، ويانوس فاروفاكس، ومجموعة من داعمي برني ساندرز في الولايات المتحدة، مجتمعين على جانبين اثنين: جميعهم يعترفون بالنهب الذي حصل للمستعمرات بالشكل الاستعماري القديم والحديث عبر التاريخ، ولكن لا يعترفون باستدامة الإمبريالية بأشكالها الفعلية لليوم، ولا يدركون كل أشكال العلاقات بين الدول الغنية والفقيرة.
إنهم يؤمنون بشكل أو بآخر «بشجرة المال السحرية»، ولا يرون انخفاض أسعار الفائدة كواحدة من علامات الإنذار الحمراء لاتقاد الأزمة وحدتها. بل على العكس يرونها ضوءاً أخضر لاستدانة المال لتمويل توسيع الإنفاق الحكومي، والإنفاق الاجتماعي، «العهد الجديد الأخضر» وغيرها من العناوين.
حقيقة لا توجد «شجرة مال سحرية» الرأسمالية لا تستطيع أن تهرب من أزمتها، ولا يهم حجم التريليونات من الدولارات التي تستدينها الحكومات والتي تطبعها البنوك المركزية.
الأموال التي أنفقوها منذ 2007-2008 اشترت عقداً آخر من (حياة الزومبي) لنظامهم المحتضر.
اليوم سيكونون محظوظين إن حصلوا على أشهر أخرى، وربما 10 أسابيع قبل الوصول إلى مرحلة انفجار النجم...

الشركات لا تجد من يُموّل ديونها

أسعار الفائدة تدخل المسار السلبي عبر العالم، ولكن هذا السعر السلبي لا ينطبق على الجميع، فإيطاليا مثلاً لن تحصل على تخفيض لفوائد أو إلغائها مع الزيادة الهائلة في نسبة الدَّين للناتج، وكذلك لن تخفّض الفوائد للشركات المدينة أو الأسواق الصاعدة التي تحاول أن تعيد تمويل ديونها.
منذ 9 آذار فوائد ديون الشركات ارتفعت إلى سقوفها، وفعلياً قليل من الشركات تستطيع الآن أن تتزود بديون جديدة لتسدد ديونها السابقة ولو كان بأي سعر، المستثمرون الماليون يرفضون تمويلهم مجدداً، والشركات تشهد اليوم انهياراً في القروض، وكل ذلك وسط أسعار الفائدة العالمية التي وصلت إلى مستويات أقل من الصفر!
لهذا السبب قرر البنك المركزي الأوروبي أن يقترض 750 مليار يورو من هؤلاء المستثمرين ويستخدمها ليشتري سندات دَين الشركات التي يرفض هؤلاء المستثمرون الماليون أن يشتروها، ويفعل الفيدرالي الأمر ذاته، ولكن بمستوى أضخم.
إن مصير أوروبا وإيطاليا تحديداً يعتمد اليوم على قرارات بندسبنك البنك الفيدرالي الألماني، فيما إذا كان سيضمن المقترضين، ورفضه لهذا سيعني عملياً المرحلة الأخيرة من موت الاتحاد الأوروبي.
خلال الأسبوعين الأوسطين في آذار، تم إعلان خطط إنقاذ بما يقارب 4.5 تريليون للاقتصادات المفلسة. إن هذا ما حصل قبل أزمة عام 2008، (تأميم الديون الخاصة)، ولكن ما نجح في 2008 من الصعب أن ينجح اليوم.
وخطط الإنقاذ هذه لا تشمل أياً من الأسواق الصاعدة، التي تتراجع قدراتها التمويلية بشكل حاد، ورؤوس الأموال التي خرجت خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من آذار 2020 من الأسواق الصاعدة كانت الأكبر حجماً تاريخياً وفق صندوق النقد الدولي.
فإذا ما كنت واحداً من أسواق الجنوب لا يوجد لديك حتى الآن إلا ترف اللجوء إلى صندوق النقد الدولي... وهو ما ظهر في 24 آذار عندما اصطفت 80 دولة عبر العالم، منتظرة الاقتراض من 1 تريليون دولار ضمن إمكانات صندوق النقد، ولكن حتى مع هذا المبلغ الكبير فإن فارق القدرات التمويلية بين دول الجنوب والشمال أبعد بكثير من إمكانات هذه المؤسسة الدولية مع الأعباء المالية الضخمة للاستدانة منها، إضافة إلى الشروط ذات الآثار الكارثية إنسانياً.

*عن مقال JOHN SMITH: « Why coronavirus could spark a capitalist supernova»، موقع OPEN DEMOCRACY

معلومات إضافية

العدد رقم:
964
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:17