المعرض...  استعراض كثير لفعالية قليلة!

المعرض... استعراض كثير لفعالية قليلة!

الكثير من الأضواء في الدورة الـ 61 لمعرض دمشق الدولي، والتي تأتي بعد عام من التصعيد الاقتصادي على جبهة العقوبات وآثارها في تعميق وضع الركود وتردي المعيشة، وانتقال مظاهر النهب الكبير لمستوى نوعي أعلى، وكما في (شعار الزهرة) الملتبس للمعرض فإن الالتباس يشوب كل هذا الضجيج الإعلامي: فهل ينفع المعرض لتجاوز أزمات الركود، وهل ينقصنا تسويق ودعاية؟!

سورية بين معرضين

اشتدت حدّة العقوبات في نهايات صيف العام الماضي، وتوقف الائتماني الإيراني، وأصبحنا نستورد كل المحروقات بالاعتماد على الوسطاء وارتفعت التكاليف على المال العام، ليقلّص من إنفاقه العام عموماً (كأن يستثمر القطاع العام الصناعي 4 بألف من خطته فقط في 2019)!
ارتفعت تكاليف الإنتاج مع ارتفاع أسعار الطاقة، وزادت حصة الريع، وتكاليف الاستيراد والتصدير. وانعكس هذا بمجمله تباطؤاً اقتصادياً: بطالة أوسع، إنتاجاً أقل، وبالنهاية ليرة أضعف ومضاربة أكبر، وتوسعاً في نشاط قطاعات الفساد والفوضى غير المشروعة.
بين المعرضين عام من الصعوبات الاقتصادية، وتفاقم الأداء السلبي في التعامل معها، الأمر الذي لم يعد يتجلى فقط بتراجع الأوضاع المعيشية لعموم السوريين، بل انتقل ليضغط على شرائح الصناعيين والمنتجين الأعلى دخلاً الذين كانوا يجدون طرقاً للتماشي مع واقع صعب: حصص الفساد الكبير والوسطاء من استيراد المستلزمات وأسعار الطاقة ومن عمليات النقل والتوزيع، وهي تكاليف تزداد مع تزايد الصعوبات والعقوبات، وتصبح معيقة لإمكانية توسيع الإنتاج أو حتى الاستمرار به بالمستويات السابقة في بعض الحالات، وخصوصاً مع صعوبات التصدير، وتعقيد الحصول على تمويل إقراضي أو دعم فعلي... (اللهم إلا بالكثير من اللقاءات ومشاريع القرارات، والإيحاء بالحركة).

هل يُمكن أن يحفّز المعرض الاستثمار؟

ليست الدعاية والعلاقات ما ينقص لتحفيز عملية الاستثمار، وتحديداً الاستثمارات الخارجية في سورية. بل جملة الوضع السياسي الدولي والإقليمي، وما تحدده من إمكانات إنتاجية في ظل استمرار عقلية قديمة في التعامل مع الأزمات.

فعملياً الاستثمار الخاص يحسب ألف حساب للعقوبات الأمريكية، ولإدخال أموال للاستثمار في سورية، ولا يُقدم على خطوات عملية إلّا بضمانٍ ما يقابل هذه المخاطرة...
وهذا ما حصل في الاستثمارات التي طُبّقت في العامين الماضيين، والتي كانت من أطراف موجودة في سورية، كاستثمار الفوسفات، واستثمار معمل الأسمدة، والتي كانت من جهات خاصة روسية استمرت بالعمل في البلاد، ومن جهات إيرانية، ومقابل حصص استثنائية (65-70%) لم تسبق في تاريخ الاستثمار في سورية! فدون هذه النسب لن يكون العمل مجدياً لهؤلاء وقد أتاحته لهم بنية التفاوض الاستثماري السورية الهشة وضعيفة المبدئية. أما الأمثلة الأخرى كعقد فرعون (السعودي) في استثمار الإسمنت فها هو يُعيد إثبات المثبت، حيث تتراكم مخالفات تنفيذ العقد بمقدار 45 مليار ليرة تقريباً وتتوقف العملية الاستثمارية في معملي عدرا وطرطوس!
لن يستثمر إنتاجياً في سورية في الوقت الحالي، إلا من لديه وكلاء وشركاء متنفِّذين، أو من يشارك هؤلاء ليستطيع الحصول على نسب مرتفعة تقابل المخاطرة. وحتى المستثمرين العقاريين والتجاريين كالإماراتيين لن يكونوا فعّالين إلّا بمقدار التنازلات المقدمة لهم.
ولذلك فإن ما نراه من نشاط لرجال أعمال، يرتبط بالواقع المرير للحال... فالمستثمرون الإماراتيون مثلاً معنيون بالسوق السورية التي تنشط أموالها المهرّبة سابقاً وحالياً في الإمارات، والتي مع أول مؤشرات انفتاح إماراتي على التعامل مع سورية، نقلت الإمارات إلى مصاف أبرز المورّدين التجاريين إلى سورية، لنستورد منها موادَّ بقرابة 1,2 مليار دولار مثل: موبايلات ودخان وسيارات بجمارك قد تكون صفراً، وفق اتفاقية التجارة الحرة العربية التي لم تلغَ... فهامش المخاطرة هنا منخفض ويتم عبر وكلاء أعمال سوريين. كما أن حماس الاستقبال للأطراف الإماراتية يرتبط بعلاقات الاستثمار العقاري للمجمعات الفاخرة المتوقفة كما في ماروتا سيتي.

الكثير من نصوص وصور الاتفاقيات

جانب آخر من جوانب العلاقات الاستثمارية يظهر أيضاً في المعرض وقبله، متمثلاً بالعلاقات على المستوى الرسمي بين الدول. مع الكثير من الاجتماعات عالية المستوى، والغرف واللجان المشتركة، وحتى صور توقيع الاتفاقيات، تحديداً مع الروس والإيرانيين بالإضافة إلى بيلاروسيا. ولكن المسألة لم تنتقل إلى واقع ملموس يُرى بالعين المجرّدة ونتلمس آثاره. فبعد الخط الائتماني الإيراني -الذي لم تسدّد أمواله للإيرانيين وحظي التهريب والفساد بحصة من محروقاته- لم تجرِ نقلة جديدة في العلاقة مع الطرف الإيراني... رغم أن الحديث يتم عن جوانب إجرائية هامة قد تُحدث نقلات نوعية، مثل: سكة الحديد من إيران إلى سورية عبر العراق، وفتح الطريق البري، وشركة نقل مشتركة، وتوليد طاقة، ولكن مع ذلك تتكرر الأصوات الإيرانية الرسمية التي تقول: إن العلاقات الاقتصادية بمستوى متدنٍّ (كما في الاجتماع التحضيري للغرفة التجارية السورية الإيرانية).

أما مع الطرف الروسي، فبنود التعاون الصناعي وفق خارطة الطريق الروسية السورية، وفي العديد من الاتفاقيات الرسمية الأخرى كانت كفيلة بتحريك عجلة الإنتاج السورية، ولكننا لا نلمس من كل تصريحات التعاون الاقتصادي، إلا بعض صفقات استيراد القمح التي تتم عبر الوسطاء المحليين وتسعّر بأسعار مرتفعة، عدا عن الاستثمارات المشوّهة مع أطراف خاصة كما ذكر سابقاً...
هنالك ما يعرقل انتقال التصريحات حول التعاون والاتفاقيات مع الأطراف المستعدة لتجاوز العقوبات، إلى وقائع ملموسة، وهذه العرقلة ترتبط إلى حدٍّ بعيد بحصص الريع، أي: حصص الفساد المبنية على النفوذ والعلاقات، والتي تصبح في حدودها الدنيا في التعاملات الرسمية إن لم تلغَ.

شركات مساهمة لتجاوز العقوبات

إن كانت غاية الإنفاق على المعرض والضجيج المثار حوله، هي تحفيز العلاقات الاستثمارية، وترويج المنتجات السورية... فإنَّ هذه الطريقة أكثر استعراضية وأقل عملية من طرق أخرى متاحة، ولكنها تحتاج فعالية أعلى! فالمعرض لن يلغي العوامل الموضوعية التي تعيق الاستثمار، مثل: العقوبات، ولن يلغي صعوبات التصدير وارتفاع كلف الإنتاج والنقل والتحويل. وهي عقبات أساسية أمام تحريك السوق السورية.
لن تتجاوز العقوبات إلا أطراف دولية معنية بالاستقرار وإعادة الإعمار في سورية، وهنالك على الأقل: روسيا وإيران، وحتى الطرف الصيني. والمبادرات الرسمية ممكن أن تنتقل لإنشاء مراكز مالية- تجارية- خدمية في هذه الدول، قد تكون على شكل شركات مساهمة عامة يشارك فيها المال العام، مع مساهمات القطاع الخاص المعني بالإنتاج والتجارة.
يمكن إنشاء شركات بفروع في سورية وفي هذه الدول، تقوم بعمل مركّب: أولاً: خدمات تمويل بالعملات المحلية عبر فتح حسابات في فروع بنكية مستقلة، وهذه بدورها تقدم خدمات تأمين وتحويل بتكاليف أقل. ثانياً وثالثاً: تقدم الشركات ذاتها خدمات شحن بالاتجاهين عبر امتلاك سفن شحن (لا تتعدى أسعارها عشرات ملايين الدولارات)، ورابعاً: يمكن لهذه الشركات أن تتحول إلى معرض دائم للمنتجات السورية، وتكون مراكز لإجراء العقود.
إن هذا يحقق تجاوز العقوبات بشكل نوعي: فلا يمكن تعقب أموالها طالما أنها بالعملات المحلية وبفروع مستقلة وتمتلك سفن شحنها، كما تتيح تخفيض التكاليف والصعوبات التي تواجه الأعمال السورية، عبر إزاحة تكلفة المخاطر من كلف التأمين والتحويل والشحن، وعبر تقليل الكلف من عملية التجميع. وهي تتيح أيضاً تنظيم عملية الاستثمار والتجارة، عبر مركزتها، والإدارة المشتركة لها، كما أنها تتيح وصول بيانات دقيقة حول أسعار المستوردات والصادرات.
إن هذه الإجراءات ليست إجراءات صعبة، بل هي تتم جزئياً ولكن بالطرق المواربة لمنظومة الفساد، فالكثير من البضائع السورية المستوردة من الصين مثلاً تتجمع عبر شركة سورية متنفذة تؤمن خدمات إجازات الاستيراد والتجميع والنقل، ولكن مقابل حصة من كل عملية استيراد. إن أمثال هؤلاء ومصالحهم تتحول إلى إعاقة جدّية للحلول الفعلية الممكنة! فيكثر الضجيج والاستعراض في المعارض وغيرها، ويقل الفعل الحقيقي لتجاوز الأزمة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
929
آخر تعديل على الإثنين, 02 أيلول/سبتمبر 2019 12:18