في مواجهة الركود (1) (السوق واقفة)... لماذا؟ وما الذي يمكن فعله؟
(السوق واقفة)... المفردة التي تسمعها كثيراً، والتي يرددها قطاع الأعمال والشغيلة والعاطلون عن العمل والجميع في سورية. من لديه عقار ليبيعه لا يجد من يشتريه، ومن يستورد يقلص الكميات، لأنّ التصريف غير مضمون، ومن لديه مصنع أو ورشة يقلص إنتاجه فلا أحد يُموله، والأسعار لا تستقر ولا يضمن أن يستعيد كِلَفه، ومن يترك عمله اليوم قد لا يجد عملاً غداً وهلمّ جرّا...!
حالة عميقة من الركود تبلورت بوضوح مطلع العام الحالي، وتعود نقطة تصاعدها إلى العقوبات التي تعمقت في نهايات العام الماضي، ولكن العقوبات تعمل في بنية اقتصادية وسياسية مضطربة، تعيق مواجهة فعالة للظرف، وينبغي فهمها لرسم سياسات الخروج منها... فلماذا تتوقف السوق! وأين الأموال، لماذا لا تتحرك استثمارياً لتحرّك عجلة النمو الاقتصادي؟
في عام 2017 ومع استقرار أسعار الصرف، ومؤشرات إيجابية أخرى تتعلق بالظرف السياسي، تمّ استثمار 520 مليار ليرة في السوق السورية ونسبة 6% من الناتج فقط. أما في الصناعة فلم تكن النسبة أعلى بكثير حيث استثمر 8% من ناتج الصناعة في توسيعها، ولكنها كانت القطاع الوحيد الذي ضاعف استثماره بالقيم الحقيقية 2,2 مرة خلال هذا العام، ما أعطى مؤشراً على أنّ هذا القطاع يبحث عن فرصة استقرار ليتوسع سريعاً (المجموعة الإحصائية 2018). ولكن ما كان في عام 2017 لم يستمر بالمستوى ذاته لاحقاً، ومنذ مطلع العام الحالي توقف تقريباً توسع العملية الاستثمارية في الصناعة وفي غيرها.
الربح غير مضمون- استهلاك ضعيف
إنّ للاستثمار أو تشغيل الأموال قوانين تحكمه، فعندما لا يجد حائزو الأموال أن الربح مضمون التحقق، فإنهم لن يغامروا بالاستثمار لا بالمستوى السابق، ولا بتوسيع الاستثمار. وبالتالي، فإنّ النمو لن يتحقق لأنه يرتبط بالعُمق في توسيع الاستثمار من عام إلى عام آخر، بل تجري عملية تقلصّ، وما كنا ننتجه في عام سابق أصبحنا ننتج أقل منه في العام الحالي...
ومن هنا نأتي للسؤال الأهم لماذا تحقيق الربح غير مضمون؟
والجواب بسيط، الربح يتحقق بالاستهلاك وقدرات الاستهلاك السورية، أو القدرة الشرائية والطلب المحلي وهي في حدودها الدنيا. ولا شيء أبلغ في التعبير عن هذا من الفارق الكبير بين متطلبات المعيشة والأجر الوسطي (332 ألف مقابل 35 ألف ليرة شهرياً)، وهذا يشمل شريحة بالحدود الدنيا تمتد إلى 80% من السوريين المتواجدين داخل البلاد.
ربح غير مضمون- تصدير متراجع
بصريح العبارة يقول قطاع الأعمال السوري: إنه لا يعوّل كثيراً وتاريخياً على استهلاك السوريين، الذي كان منخفضاً ومتراجعاً منذ عقود مضت، بل إن قطاع الأعمال، وتحديداً الصناعي يرتبط بالتصدير لأسواق الإقليم. ولكن حتى الحركة التصديرية تراجعت في 2018 عن 2017، وبقيت متمركزة في قليل من فوائض الزراعة الخام بنسبة 56%، بينما لم تتعدَّ الصادرات الصناعية للألبسة مبلغ 30 مليون دولار، وللمنتجات الكيميائية 16 مليون دولار كذلك الأمر... وهي مبالغ تتحقق في السوق من جولة مضاربة على ارتفاع سعر الدولار، ولا تمثل إلا نسبة 2% من ودائع المصارف الخاصة في 2018.
وقد لا يرتبط تراجع التصدير بالمنع الناجم عن العقوبات، والذي لا يشمل مباشرة القطاع الخاص، بقدر ما يرتبط بظروف الإنتاج المحلية، وأثر العقوبات والسياسات عليها.
إنتاج هش وغير مستقر
المشكلة العميقة هي في استقرار ظروف العملية الإنتاجية داخل سورية، فهي في وضع هش، ويرتبط بعدم استقرار تأمين المستلزمات من حيث التسعير والكلف، وحتى من حيث الكميات، في ظروف شحّ في التمويل المصرفي. وعندما تقوم البنية التصديرية والإنتاجية عموماً على مستوى تقني وظروف عمل معقدة وصعبة، فإنها تصبح هشة أمام أية تغيرات... فالتصدير السوري قائم على مكسب انخفاض قيمة العملة وعلى هوامش ضيقة في المنافسة في الأسواق الإقليمية. ولذلك التغيرات الكثيرة والمتواترة في أسعار الطاقة، وفي تكاليف المستلزمات الإنتاجية المستوردة، وفي كلف العمولات والريع و(السلبطة)، وفي كلف الشحن والتأمين والتحويل، جميعها عوامل تجعل قدرة المنتجين على تسويق إنتاجهم بفعالية في الأسواق المجاورة غير مضمونة الربح، وهي لا تستطيع أن تعوّل على السوق المحلية ذات القدرة الشرائية الضحلة (يقدّر مختصون بأن حركة الأموال في السوق السورية تنتهي بـ 20 الشهر، أي: أن الأسواق تتوقف ثلث السنة تقريباً، وتركد العملية الاستهلاكية المحلية).
زيادة الطلب استهلاكي- إنتاجي ضرورة
يقف في وجه العملية الاستثمارية وحركة الأموال في السوق السورية، جملة مشكلات تتعلق بالبنية الاقتصادية، ولكن بالعمق فإن تحريك عملية الاستثمار الإنتاجي وخلق حافز فعلي له يرتبط بمسألتين:
أولاً: توسيع قدرات الاستهلاك النهائي والقدرة الشرائية في السوق السورية، ولكن بشكل محدد يسمح بتحول القدرة الشرائية إلى تحريك الطلب، وعدم تحوّلها إلى دخول لأصحاب الريع من المتحكمين بكلف الحاجات الأساسية، (وهو ما سنعود إليه لاحقاً).
ثانياً: توسيع قدرة الاستهلاك الإنتاجي عبر تأمين استقرار في تدفق وكلف مستلزمات العمليات الإنتاجية. ولهذا جملة إجراءات تمتد إلى جميع مجالات السياسة الاقتصادية لتشكّل دوراً مرناً وفعّالاً لجهاز الدولة (سنتوسع بها لاحقاً).
الريع مشكلة (اقتصادية– سياسية)
إن سياسات توسيع الطلب المحلي الاستهلاكي والإنتاجي، هي مفتاح في مواجهة أزمة الركود الحالية، ولكنها ليست مسألة سهلة... وهي تتناقض بالعمق مع المصلحة الضيقة لأصحاب الريع الكبير، وهؤلاء لهم وزن أساس في السوق السورية وأصحاب نفوذ. فعملياً المستثمرون في المضاربة: مالكو الكتلة الأكبر من الثروات من قطع أجنبي وسوري وعقارات وأراضٍ، والساعون إلى عملية مركزة واسعة، ومراكمة أكبر قدر من الثروة بأقل الأسعار، المتحكمون بأسواق استهلاك سلع أساسية مضمونة كالغذاء والطاقة، مجمل هؤلاء يبنون أرباحهم على استمرار تراجع الآخرين وعلى ديمومة العقوبات والأزمة، وفي الوقت المستقطع يجدون منفعة كبرى من ظروف الفوضى في الاستثمار في قطاعات سوداء تدرّ ربحاً كبيراً، كما في توسع بل استقرار إنتاج الحبوب المخدرة في سورية. إن وجود هؤلاء يؤدي إلى انتقال المزيد من الثروة المطلوبة للاستثمار إليهم، ولا تنتقل هذه الثروة لهم إلا بمزيد من التدهور الاقتصادي الإنتاجي، بل والاجتماعي السياسي. إن هؤلاء لا يبنون على تغير الظرف، إلا باتجاه صفقات دولية ليرضى عنهم الغرب تحديداً، ويفتح باب محاصصتهم في عملية إعادة الإعمار التي يتخيلونها مجال نهب استثنائي واعد، كما في التجربة اللبنانية والعراقية. إن مواجهة قوى الريع تتطلب ضغط قوى الإنتاج الراغبة في السير للأمام، ويتجلى هذا الضغط اليوم في محاولة السياسات الحكومية الدائمة الإيحاء بالحركة، دون وجود حركة فعلية بفعل عطالة قوى الريع الكبرى ذات النفوذ.
استمرار هذا الوضع لا يعني فقط ركوداً اقتصادياً، بل يمتد ليتحول إلى تعمّق ظروف الفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي: تراجع الإنتاج، وهروب الأموال مجدداً إلى حيث تستطيع العمل والاستثمار، موجة هجرة بشرية جديدة، والأهم توسع البطالة والفقر والفوضى وصولاً إلى تأمين ظروف تشكُّل الإرهاب مجدداً. لذلك فإن مواجهة الركود وفتح باب النمو هي مواجهة كل ما سبق...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 927