مستقبل دول الخليج: ما بعد النفط والغاز
لطالما كان (التنويع) هو هدف اقتصادي معلن في دول الخليج العربي النفطية الست، إذ يتكرر هذا الهدف منذ عشر سنوات في الخطط الاقتصادية. ولكن أزمة النفط منذ عام 2014 حولته إلى ضرورة بعد أن أضافت تعقيدات وتحديات جديدة على دول الخليج، تجعل سؤال قدرتها على التنويع محط تساؤل جدّي...
عوائد النفط والغاز في دول الخليج هي المصدر الأول للإيرادات الحكومية، وهذا الأمر يشكل تحدياً كبيراً في دول الخليج النفطية كافة، التي تعتمد كثيراً على الإنفاق الحكومي العام.
الإيرادات الحكومية نفطية بأكثر من 60%
قد تعتبر الإمارات العربية المتحدة، من أكثر دول الخليج التي نجحت نسبياً في تنويع اقتصادها، وتقليل الاعتماد على عوائد النفط. فحصة النفط في صادرات الإمارات أقل منها في دول الخليج الأخرى، إذ تقارب 30%، مقابل قرابة 60% لكل من عُمان والبحرين، بينما تفوق 75% في السعودية، وتصل إلى أعلى من 80% في الكويت وقطر.
ورغم النسبة المنخفضة لحصة الصادرات النفطية في الإمارات بالقياس إلى الدول الأخرى، إلّا أنّ النفط يساهم بالنسبة الأكبر من قدرات الإنفاق الحكومي، فعلى الرغم من الديناميكية العالية لاقتصاد إمارة دبي، فإن النفط في إمارة أبي ظبي يشكل الركيزة الأساسية للعوائد، التي تتوزع على الإمارات الأخرى.
فعملياً، الإيرادات المالية العامة في دول الخليج لا تزال تعتمد على النفط والغاز بالدرجة الأولى: فأقلها في الإمارات ولكن بنسبة تفوق 60%، وتصل في البحرين وعمان إلى 85%، وتقارب الـ 80% في الكويت، بينما تتجاوز نسبة 75% في قطر، وتفوق الـ 70% في السعودية.
الإنفاق الحكومي في دول الخليج، المعتمد على النفط، يستخدم كأداة إعادة توزيع سياسية، توزع العوائد على المواطنين، وعبر المناطق، بالشكل الذي يضمن استمرارية واستقرار سياسي للمجتمعات المحلية.
ولذلك فإن الاختلالات التي أصابت المالية العامة في دول الخليج الست، منذ أزمة النفط، تحمل في طياتها أزمات اقتصادية، واجتماعية سياسية، حيث لا يمكن التراجع السريع عن العوائد الكبيرة التي كانت تُوزّع عبر الإنفاق الحكومي.
الديون الدولارية بديل مالي!
اعتمدت أغلب دول الخليج منذ أزمة النفط في عام 2014، على القروض لتعويض النقص في إيرادات المالية العامة النفطية.
فعمدت دول الخليج للاعتماد على القروض الدولية، وتحديداً الديون الدولارية من السوق المالية العالمية، لتُبقي مستويات الإنفاق المالي المرتفعة، بغرض أساس، وهو: استقرار الأنظمة.
قادت السعودية قاطرة الديون الحكومية بالدولار، للمحافظة على مستويات الإنفاق المرتفعة، ولتمويل حُزَم الدّعم التي يتطلبها مشروع رؤية السعودية 2030، الهادف بدوره إلى الوصول للتنوع الاقتصادي بعيداً عن النفط. كما تحول الدَّين إلى شبكة الحماية، التي تجعل التحولات الكبرى في السعودية أكثر احتمالاً، مثل: رفع الدَّعم عن أسعار الطاقة والضرائب والرسوم الجديدة.
بدأت قفزة نمو إصدار الديون السيادية في دول الخليج الست، مع عام 2016، ليرتفع بمجموعه من مستوى أقل من 10 مليارات دولار في مجموع هذه الدول عام 2015، ويصل إلى مستوى إصدار 40 مليار دولار في 2016: ساهمت السعودية بمعظمها، وأصدرت كل من الإمارات والكويت ما يقارب 10 مليار دولار لكل منهما.
ليرتفع بعدها إصدار الديون السيادية في 2017 إلى 50 مليار دولار: 20 منها للسعودية، بالإضافة إلى ما يقارب 10 لكل من الإمارات وعُمان والكويت. وأخيراً انخفضت كتلة الديون السيادية المصدرة في العام الماضي إلى 30 مليار دولار تقريباً، لمجموع الدول الست.
البحرين كنموذج لتسارع التدهور
البحرين كنموذج ضمن دول الخليج، كان إصدارها مستمراً منذ عام 2016، ولكن بمستويات أقل من الدول الأخرى، ولكن هذه المستويات كانت كافية لتتكرر ظاهرة تجاوز حجم الديون المصدرة مقدار احتياطيات البنك المركزي البحريني، منذ ما بعد عام 2014. حيث انخفضت مستويات الاحتياطي البحريني إلى حدٍ بعيد، حتى أصبحت تعتمد كلياً على معونات الإقراض من السعودية والإمارات، لمواجهة خطر انهيار دينارها، الذي لا تستطيع الدفاع عن قيمته. فبين عامي 2014- 2015 فقدت البحرين قرابة نصف احتياطياتها المركزية من العملات الأجنبية، التي انخفضت من 6 إلى أقل من 3 مليار دولار. وحتى شهر 9-2018 انتظرت البحرين وعود الدعم من السعودية والإمارات، ثم اضطرت للجوء إلى الديون الخاصة من البنوك الإقليمية، لتنخفض الاحتياطيات البحرينية في شهر 5-2018 إلى 1,8 مليار دولار، وهو ما يغطي احتياجات شهر فقط!
فالبحرين هي نموذج أيضاً على الإنفاق الحكومي السياسي على المواطنين، فرغم أن عائداتها النفطية لا تشكل إلا جزءاً قليلاً من عائدات الدولة الأخرى، إلّا أن الإنفاق على الفرد البحريني أعلى من مستوياته في دول الخليج الأخرى، بالقياس إلى العوائد. فبينما تنتج البحرين ما نسبته 5% من النفط الذي تنتجه الكويت، إلّا أن حصة الفرد من الإنفاق فيها يقارب نصف حصة الفرد في الكويت.
تتحول الرشوة السياسية المقدمة من الحكومات لمواطني دول الخليج إلى عبءٍ مالي يدفع بهذه الدول إلى شفا الإفلاس.
العجز المالي أصبح سمة دائمة
لقد تحول الدَّين السيادي إلى أداة إنعاش واستمرار لاقتصاديات النفط في الخليج، الممولة بالإنفاق والتحفيز الحكومي، وذلك منذ أزمة النفط، وانخفاض أسعاره العالمية في عام 2014. أصبحت العجوزات المالية هي الحالة الدائمة، لدول الخليج باستثناء الكويت.
إن كلّاً من البحرين وعُمان والسعودية والإمارات، قد دخلت العجز المالي منذ عام 2014، الذي وصل إلى نقاطه القصوى في عام 2016: ليشكل العجز نسبة تفوق 20% من ناتج عُمان، وكذلك البحرين، مقابل نسبة 15% من ناتج السعودية، و5% من ناتج قطر والإمارات.
إن هذه الوقائع الاقتصادية لمستويات الديون والعجز والاعتماد على النفط المتراجع في دول الخليج العربي الست، هي التي تدفع إلى جملة التغيرات في النماذج الاقتصادية لدول الخليج، وكذلك في البنى السياسية، لتشير بأن النموذج الاقتصادي السابق لم يعد قابلاً للاستمرار. فالحكومات لم تعد قادرة على تقديم كل ما كانت تقدمه سابقاً، وبالمقابل فإن سياسة تنويع القطاعات والموارد تبدو وكأنها تمضي قدماً، إلا أنها تصطدم بعائق الأجل الطويل، وحاجتها إلى الإنفاق الحكومي الكبير...
عن مقال للبروفيسور كارين يونغ من موقع: nternationale Politik: Wirtschaft