إعمار سورية من الاستقرار السلبي... للصدمة الإيجابية
استقر التدهور الاقتصادي السوري منذ منتصف عام 2016 تقريباً... ولم يعد يشهد انعطافات كبرى للأسوأ أو للأفضل، وقد ترافق هذا مع تغيرات هامة في حجم المعركة، فانحسارها تحول إلى عامل استقرار نسبي، ولكن عند عتبة متدنية... لن ترتفع تدريجياً بل فقط «بالصدمة الإيجابية».
يستقر الوضع الاقتصادي على الحال المتردي لعموم السوريين، عند الحد الذي يمكن التعبير عنه بالمفارقة الهائلة بين الأجر الوسطي وتكاليف المعيشة: حيث 35 ألف ليرة تقابلها تكاليف معيشة بالحدود الدنيا 300 ألف ليرة لأسرة من خمسة أشخاص. وهذا الفقر المستتب لا يمكن تجاوزه أو تلطيفه أو تحسينه بالتغيرات التدريجية عبر الزمن، بل يحتاج إلى «علاج بالصدمة».
التدهور توقّف
والمشاكل عامت على السطح
إن استقرار الوضع منذ عام 2016 ترافق مع تحسن في بعض المؤشرات العامة: توقف النزوح السكاني، ودمار البيوت، إذ بدأت عودة جزء من النازحين إلى مناطقهم.. ولكن هذا لا يعني أن الآجارات انخفضت، أو أن عدد المشردين و«نزلاء الحدائق» أصبح أقل، أو أن المدمرة منازلهم امتلكوا القدرة على ترميمها! بل بقيت أزمة السكن الاجتماعية قابعة بعنفٍ فوق رؤوس الجميع.
توقف التدهور في قيمة الليرة، وأصبحت الأسعار تنتقل ببطء إلى الصعود، وليس بقفزات نارية... ولكن لا زال الأجر ثُمن الحاجة الفعلية!
توسعت التجارة الخارجية وحركة نقل البضائع، ولم تتغير أسعار شراء الفوائض الزراعية من المزارعين، أو أسعار البيع للمستهلكين. جرت نقلة في قطاع الطاقة، ولكن لا زال الشتاء يحمل معه أزمات فقدان المواد والتقنين الطويل، وبقي الإنتاج على حد الاستهلاك... وبقيت الأسر محرومة من حد التدفئة الكافي، وأسعار النقل عند مستويات مرتفعة.
تحررت المساحات الزراعية، ولكن لم تتحول إلى قمح إضافي يصل إلى رغيف الخبز! توسعت مؤشرات الاستثمار الصناعي، وبقيت الورش غير النظامية مشغّلاً أساسياً، وبقيت أجور الصناعة عند سقوفها المتدنية، وبقي الأطفال شريحة هامة من العاملين. بينما الشباب والشريحة الفعالة من قوة العمل محاصرون في أتون الحرب والمعارك لسبع أو ثماني سنين، أو خارج حدود البلاد دون فرصة جدية في الرجوع أو حتى الزيارة؟!
الاستقرار في التدهور، لا يمكن أن يكون كافياً للوصول إلى ما يمكن تسميته «تحسناً معيشياً». بل إن الركود تحوّل إلى كاشف لحجم التردي الاقتصادي والاجتماعي. فخفوت ضجيج المعارك أظهر بوضوح حجم التآكل الاقتصادي- الاجتماعي في المجتمع السوري بعد سنوات الدمار.
الأثرياء ينتظرون
المدد الخارجي فهل يأتي؟
في المقابل فإن المنتصرين اقتصادياً في هذا التدهور، أيضاً قد طافوا على السطح، وبدأت أموال العنف والعفن تتحول إلى مظاهر التحلل والاستهلاك الترفي، والاستثمار الخُلّبي.
ولكن حتى هؤلاء يقبعون على تلال أموالهم بعد أن بيضوا جزءاً كبيراً منها أملاكاً وأراضي وشراكات حكومية وقطاعات بأكملها... وينتظرون. يدفعون المعنيين ليبذلوا كل جهدٍ لهم في الإغراء والتدليل على استثمار في بلاد هشّمتها الحرب، وتصلح لإنتاج الأموال السريعة، ولكن ما من مُجيبٍ حتى الآن، ولا حركة جدية تلوح في الأفق.
ففي الخارج وعلى تلال أموال الدول الأخرى، يسود الحذر والترقب لدى المستثمرين: فالفرصة السورية ليست مضمونة حتى الآن، وهي محكومة بالتغيرات السياسية والمواقف الدولية. فمن جهة الغرب والأمريكان تحديداً لم يملوا تماماً من محاولة العودة للمعركة الواسعة، ولن يسمحوا للاستثمار الذي يرصدونه ويتعقبونه أن يتقدم خطوات غير منسقة نحو سورية.
ومن جهة أخرى، فإن قوى الشرق الفاعلة سياسياً واقتصادياً، تبدو معنية بسورية اقتصادياً بمقدار ارتباط الاقتصاد بالاستقرار، وبنجاح مشروع تسوية سياسية ناجحة من بعد الفوضى. وهي قد تعرقل بأهدافها وأولوياتها السياسية أن تكون إعادة إعمار سورية «بزنس ناجح» للجميع.
فروسيا تتحدث عن إعادة إعمار بنى تحتية وإعادة لاجئين وقطاع طاقة وسكن اجتماعي وصناعات، ومهمات محددة مرتبطة بالسياسة ولجم إعادة خلق الأزمات. والصين تنظر إلى سورية كمفصل سياسي في شرق المتوسط، يجب أن يستقر ويستعيد قدراته التنموية... بمرابح سياسية إستراتيجية تفوق المرابح المباشرة التي قد يحققها العملاق الصيني من بقعة سورية الجغرافية الصغيرة.
فلا الغرب يريد الانتقال في الملف السوري من بزنس الحرب إلى بزنس المال الآن، وربما لن يكون قادراً حتى لو أراد في الأجل المتوسط في ظل الأزمة المالية العالمية التي تلوح في الأفق... ولا الشرق يرى أن إعمار سورية قضية بزنس يربح منها الوكلاء والمستثمرون، لأن هذا قد يكون ثمنه خسارة فرصة النجاح والاستقرار للمشروع السياسي للقوى الصاعدة، ومدخلاً جديد لمشروع الفوضى الغربي إلى سورية.
من يرى ظروف السياسة الدولية، عليه أن يعلم، أن إعمار سورية مسألة سياسية ستتحول إلى مفصلٍ في تسوية الأزمة كلما تقدم ملف التسوية السياسي. ولن يستطيع أن يكون «بزنساً صرفاً»، بل لديه الفرصة الجدية ليكون مرحلة سياسية للعلاج الاقتصادي بالصدمة: بإجراءات اقتصادية-سياسية ضرورية لانتقال المجتمع السوري إلى الاستقرار المستدام. ولكن هذه الصدمة ستكون إيجابية للسوريين، وسلبية لأهل البزنس. وسترتبط بالتغيرات السياسية الضرورية، لتأمين رافعة شعبية من الضغط للوصول إلى الإجراءات المطلوبة. حتى ذلك الحين قد نرى الكثير من المؤتمرات، وعدة صفقات استثمار هنا وهناك، ولكن لن نرى إعادة إعمارٍ أو سيراً جدياً للأمام، فدائرة المال ضيقة ومحدودة بالمسار والظرف السياسي للأزمة السورية.