«اقتصاد العَرَبة» واستغلال اللّاجئات

«اقتصاد العَرَبة» واستغلال اللّاجئات

اقتصاد العَرَبة (gig economy) أسلوب رأسمالي جديد نسبياً على المستوى العالمي، وحديث الولادة في منطقتنا. ويقصد به قيام شركات رأسمالية بالاستثمار في سوق العمل عبر تشغيلها لمنصّات وسيطة تتيح للشركات شراء عمل، أو خدمات العمّال، عبر طرح المطلوب منهم بشكل طلبيات ومهام، لقاء أجور يتمّ دفعها بعد تلبية الطلبية، بما يدخل في نطاق أسلوب العمل المأجور «بالقِطعة» وليس «بالساعات»، ويلبّي العامل طلبيّة كلّ «قطعة» دون أيّة ضمانات باستمرار توظيفه لقطعة جديدة تالية «يوصلها» عبر عَمَلِه أو «عَرَبَتِه» (مَجازياً).

تطلِق شركات العَرَبة على عمّالها صفة «متعاقدين مستقلّين»، وليس «موظَّفين»، أو تسمّيهم حتى «أصحاب مشاريع صغيرة»، رغم عدم اختلاف هذه الطريقة بالجوهر عن أيّ عمل مأجور مستَغَلّ بالطريقة الرأسمالية، غير أنّ مستوى الاستغلال هنا أشدّ والأجور أدنى وأكثر تقلّباً، ولا يتمّ الالتزام بأيّ حدّ أدنى للأجور، ولا ضمان اجتماعي، ولا تعويضات ولا تأمين شروط عمل مهنية وصحية، ولا تنظيم للعمال في نقابات. وهكذا يجرّدون من الدفاع عن حقوقهم ويصعّب عليهم القيام بفعل جماعي، فهم يعملون كلّ منهم على حدة بشكل معزول، لأنّ معظم أنواع العمل باقتصاد العَرَبة تتمّ من المنزل أو جواره القريب (معالجة الصور والغرافيك، معالجة النصوص، إدخال بيانات، الحلاقة والتجميل، إعداد وجبات الطعام، وغيرها).
وتتواسط في التواصل بين العمّال/ العاملات وربّ العمل منصّةٌ خاصّة عبر تكنولوجيا الاتصالات الحديثة غالباً (الإنترنت وتطبيقات الهاتف المحمول) وهي ضرورية لأنماط ما يسمّى «عمل الحشد» (أو «الجماهير») التي يمكن بوساطتها أن تقوم المنصّة الوسيطة في بلد ما بالتنسيق بين الشركة الموجودة في بلدٍ ثانٍ، وعاملٍ موجود في بلد ثالث. وأحياناً، بأسوأ الظروف، عبر الاتصال الهاتفي العادي والرسائل النصية، بالنسبة لأنماط العمل «على الطلب» التي يكون فيها شاري الخدمة وملبّيها قريبَين من بعضهما مكانياً، أو عند تشغيل عمالة لا تحقق الحد الأدنى المطلوب من شروط التعليم واللغة، و«محو الأميّة الرَّقَمية» (والأخير تحدده الشركات عالمياً بمستوى شهادة التعليم الثانوي).
وفق تقديرات 2017 فإنّ القيمة الإجمالية لاقتصاد العَرَبة عالمياً قد يصل إلى 63 مليار دولار بحلول عام 2020، علماً أنه كان 10 مليارات دولار في 2014. وقدّرت دراسة حديثة بأنّ نحو 48 مليون عامل تقدّموا وسجَّلوا عبر منصات الأعمال الصغيرة الرقمية، أو ما يسمّى «فريلانس» freelance، وأن 10% منهم ناشطون بالعمل.
أوهام «مرونة» و«حرية» العمل
إنّ المصادر البرجوازية (مثل: دراسات معهد التنمية عبر البحار البريطاني ODI، أو نشرة الهجرة القسرية forced migration review وغيرها) وإنْ نشرت دراسات حول اقتصاد العَرَبة تلامس بشكل خجول بعض جوانبه الاستغلالية، إلّا أنّها تبقى إصلاحية وغير نقدية في طرحها، محاولة تلطيفه، وبطريقة ما التسويق والترويج لشركاته. كثيراً ما تروّج شركات العَرَبة لنفسها بأنّها تؤمّن «مرونة» للمتعاقدين معها في اختيار أوقات العمل وتفاصيل أخرى، ولكن عملياً ونظراً لتدنّي الأجور وخاصة عند اعتماد كمصدر وحيد للرزق، سيضطر العامل إلى الضغط على نفسه لإنجاز أكبر عدد يقدر عليه من «الطلبيات» أو «القِطَع» (في عمل إضافي لا ينتهي وبالأجر نفسه)، فضلاً عن خصوصية بعض المنتوجات التي تتطلب الالتزام بأوقات وآجال محددة (تسليم وجبة، أو تصميم... إلخ).
حالة الأردن
بدأت في الأردن منذ العام 2017 على الأقل عدة شركات «اقتصاد عَرَبة»، عالمية ومحلية، بتشغيل بعض اللاجئات السوريات كخيار مفضَّل (ضمن الميل العَولَمي لـ«بَلْتَرَة النساء» و«تأنيث العمالة») بسبب إمكانية استغلالهن بأجور منخفضة جداً والاستفادة من تميّزهن في أنواع معيّنة من العمل (خاصّة إعداد الطعام وتجميل السيّدات)، مستغلّين الحاجة الماسّة لديهن للعمل بسبب ظروف الفقر واللجوء، وصعوبة الحصول على رخصة عمل قانونية– حتى للرجال– أو عدم امتلاك المؤهلات والتعليم اللازم لأعمال أخرى، فضلاً عن القيود الاجتماعية والثقافية التي تفرضها العائلات على خروجهن من المنزل، والتزامهن بالرعاية الأسرية التقليدية (غير المأجورة) للعائلة والأولاد.
وفق أحدث أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين UNHCR يبلغ عدد اللاجئين السوريين في الأردن 668,495 شخصاً، أكثر من نصفهم بقليل من الإناث، مع غلبة عدد الإناث على عدد الذكور لكل الأعمار التي تتجاوز 18 عاماً.
حسب مؤشرات التنمية للبنك الدولي (2016) كانت نسبة البطالة بين الإناث الشابّات في الأردن (15– 24 سنة) هي 56% (تقريباً ضعف نظيرتها لدى الذكور). وقدّرت منظمة العمل الدولية نسبة الإناث في إجمالي القوة العاملة في الأردن بنحو 14% عام 2016، وهي أخفض من الوسطي (22%) للشرق الأوسط وشمال إفريقية، وأنّ من بين اللّاجئات السوريات تعمل فقط 6– 7% منهن ضمن القوة العاملة في الأردن. في حين سبق لـ 17% منهن أن عَمِلن في سورية قبل اللجوء (منظمة الأمم المتحدة لشؤون النساء 2017). ولكن تلاحظ بعض التقارير أنّ التقديرات قد تجاهلت مشاريع عمل النساء المنزلي المأجور (الخياطة وإصلاح الثياب، إنتاج الطعام، وخدمات العناية بالشَّعر والتجميل).
وللتوضيح نذكر بعض الأمثلة عن منصات اقتصاد العَرَبة في الأردن: شركة «بِالفُرُن» Bilforon التي أُطلِقَت في تموز 2016 وتشتغل في تقديم الأطعمة المنزلية الجاهزة (مثل: المربّيات والمخلّلات)، وتربط الزبائن مع العاملات اللاتي يحضّرن الطعام ويبعنه من منازلهن. يستطيع الزبون استعراض قائمة الأطعمة المنزلية والطلب مباشرةً من تطبيق الموبايل. شركة «مرايتي» Mrayti التي أُطلِقَت في كانون الأول 2016 وتشغّل عاملات العناية بالتجميل اللاتي يقدّمن خدماتهن للزبائن في منازلهم. شركة «عون» 3oun التي أطلقت في حزيران 2016 وتُشغّل عمّالاً من الرجال في خدمات مختلفة منها: قَطْر السيّارات وصيانة أنابيب المياه وغيرها. وشركة Uber التي أطلقت في نيسان 2015 وتعمل في نقل الركاب بسيارات أجرة.
ماركس والعمل بالقطعة
في رأس المال (المجلد الأول) يميّز كارل ماركس هذا الشكل من علاقة العمل المأجور بوصفه تحويلاً بسيطاً للعمل وفق اليوم أو الساعة، ولكنه تحويلٌ «يصبح المصدر الأكثر جدوى لإنقاص الأجور، وللخداع الذي يمارسه الرأسماليون». فالعمل بالقطعة والعمل بدوام جزئي، كما بيّن ماركس عبارة عن تكتيكات تسمح لرب العمل بتخفيض سعر قوة العمل إلى ما دون قيمتها. وفي ظل الأزمة الرأسمالية قاد سعي الشركات المستميت للحفاظ على الربحية بأيّ ثمن، إلى تكيُّفات تسمح لرأس المال بالاستغلال الفائق للعمل، ومنها: اقتصاد العَرَبة، الذي يتميز أيضاً بأنّ الشركات تلقي بمعظم أعباء تكاليف تجديد وسائل الإنتاج على العمّال. فتشترط عليهم تأمين نقلها وصيانتها وتنظيفها بأنفسهم، فتوفّر الشركة على نفسها جزءاً من تكاليف رأس المال الثابت، خالقةً نموذجاً مناسباً لتسيير أعمالها في ظلّ الأزمة الاقتصادية.
ضرورة حماية العمّال
رغم أنّ قطّاع «اقتصاد العَرَبة» هذا ما زال حتّى الآن صغيراً في الأردن والمنطقة بشكل عام– أمّا في بريطانيا مثلاً، يعمل فيه أكثر من مليون عامل كقطّاع غير منظَّم ويتعرضون أيضاً لاستغلال أشدّ مقارنة مع قطاعات الاقتصاد المنظَّم– لكن من المهم دراسته ومتابعته أكثر، باعتباره شكلاً من عولَمَة الاستغلال الفائق في انتزاع القيمة الزائدة، ولأنّ هناك مؤشّرات على ميله باتجاه التوسّع أكثر عالمياً، حتى في منطقتنا (على سبيل المثال: أُنشِئَت منصّات متخصصة للعمل في الخياطة، مثل: zTailors و Uber for Tailors وهو مجال تبرع فيه السيدات السوريّات خاصّة). كما أنّ عودة اللّاجئين السوريين إلى الوطن قد لا توقف على الفور استغلالَهم في «اقتصاد العَرَبة» لأنّهم قد يضطرون لفترة ما، تطول أو تقصُر، إلى الاستمرار في الاعتماد على هذا العمل، ريثما تُؤمَّن لهم فُرَصٌ أفضل. وبالتالي، من الضروري حماية هؤلاء العاملات والعمّال عبر تنظيم هذا القطاع، إذا كان ولا بدّ من استمراره لفترة ما كأمر واقع (بالطبع إضافة إلى ضرورة تنظيم جميع القطاعات غير المنظّمة الموجودة أصلاً) ريثما يتمّ خلق بديل اقتصادي وطني أكثر عدالة.