«سبّاقون في التقشف»... -45% في سنة واحدة!

«سبّاقون في التقشف»... -45% في سنة واحدة!

بعد أن أفرجت الأرقام الحكومية عن بيانات ومُسوح المكتب المركزي للإحصاء، فإن قطع الموازنات قد بدأ بالصدور. أي: بدأت وزارة المالية تعلن ما أنفقته فعلياً من الموازنات التي رصدتها بآلاف المليارات سنوياً.

// صدر قطع موازنة عام 2012، وناقشه مجلس الشعب بتاريخ 24-6-2018 ووافق على ما أعلنته الحكومة، بأنها أنفقت نصف المعلن فقط. وليس الهام هو موافقته أو عدم موافقته! فالأمر قد تم وما صُرف قد صُرف، وما لم يُنفق... لم يُنفق عملياً، ولن تغير الموافقة شيئاً.

عشتار محمود
تبين من قطع موازنة عام 2012، أن هذه الموازنة التي بلغت في حينه 1326 مليار ليرة، لم يُنفق منها فعلياً إلا 667 مليار ليرة. أي: أنفقت الحكومة 50%، ووفرت الحكومة 50% من النفقات المرصودة.
تقليص الإنفاق 8 مليارات دولار
بهذه الحالة فإن الإنفاق قد تراجع في عام 2012 عن المعلن عنه في عام 2011 بمقدار 170 مليار ليرة تقريباً، وليس كما كان يقال في حينها بأن الحكومة رصدت أكبر موازنة وقفزت من قرابة 835 مليار ليرة موازنة 2011 إلى أكثر من 1320 مليار ليرة!
أما إذا ما قيس التراجع الفعلي في الإنفاق الحكومي بين عامي 2011 و2012، فإن الحكومة وبعد سنة على أزمة البلاد، قد سارعت إلى تقليص إنفاقها بشكل حاد، وبنسبة تقارب 45%!
فموازنة عام 2011 قد قاربت 16,7 مليار دولار، بينما الموازنة الفعلية المنفقة في عام 2012 قد بلغت 8,8 مليار دولار، وفق سعر صرف نهاية ذلك العام البالغ قرابة 75 ليرة مقابل الدولار.
على اليونان أن تتعلم التقشف
نفذت الحكومة فعلياً خطة تقشف حادة في الإنفاق الحكومي في ذلك العام، وإذا ما قارناها بخطط التقشف الحادة المطلوبة من حكومة اليونان مثلاً، فإن تقشف حكومتنا أسرع وأعنف بما لا يقاس.
فاليونان خفضت إنفاقها الحكومي من 12 مليار يورو في عام 2011 إلى 11 مليار يورو في عام 2012، واستمرت بالتخفيض التدريجي حتى أوصلت الإنفاق إلى قرابة 9 مليار يورو في عام 2018، بعد كل الضغط المالي من صندوق النقد الدولي، والمصرف المركزي الأوروبي على اليونان التي تعاني من دين عام يقارب ضعفي ناتجها، فإنها لم تستطع أن تخفض إنفاقها إلا بنسبة 25% خلال 8 سنوات. بينما نفذت حكومتنا، دون أية ضغوطات خارجية وبشكل ذاتي، خطة تقشف قاسية وبنسبة 45% خلال عام واحد فقط!
هل خفضنا الإنفاق إلى 80%؟
حتى الآن لم يكشف عن قطع موازنات الأعوام التالية لعام 2012، أي: لم يكشف عن التنفيذ الفعلي للإنفاق في الموازنات.
فإذا ما كانت الأفعال نصف الأقوال كما هو الحال في عام 2012، فإن هذا قد يعني أن موازنة 2018 التي تقارب 6,3 مليارات دولار تقريباً، يمكن ألا تتعدى 3 مليارات دولار. ويكون الإنفاق الحكومي قد تراجع خلال سنوات الأزمة الثماني بما يقارب: 80%! وسيظهر هذا من قطع الموازنات لأعوام الأزمة، التي أعلن وزير المالية أن صدورها أصبح قريباً...
زيادة الدَّين رغم التقشف
المفارقة الهامة تكمن في رقم العجز، فالحكومة تقول بأنها خفضت الإنفاق نتيجة انخفاض الإيرادات، وحتى لا يتزايد العجز المالي وتضطر الحكومة للدَّين العام من المصرف المركزي، عبر إصدار النقد، أو ما يُسمى «الأخذ من الاحتياطي».
وبالفعل فإن موازنة عام 2012 وبعد صرف نصفها فقط، وتوفير النصف، قد بلغ العجز فيها مقدار 86 مليار ليرة، بينما كان العجز المقدر في الموازنة المعلنة هو حوالي 528 مليار ليرة. وهو ما يجب أن يعني تخفيض الحكومة لدينها العام، وعدم اضطرارها إلى إصدار النقد من المصرف المركزي الأمر الذي يزيد التضخم.
ولكن الأرقام الأخرى ومن مصادر عديدة تقول غير ذلك! فبيانات من وزارة المالية تشير إلى أن الدَّين الحكومي الداخلي قد ازداد في عام 2012 بمقدار 470 مليار ليرة، وحوالي 9,5 مليار دولار.
وهناك رقم آخر يقارب هذا الرقم، يشير إلى أن كتلة النقود بالليرة السورية، وهي التي تصدر عن البنك المركزي، قد ازدادت في عام 2012 بمقدار: 585 مليار ليرة، أي: حوالي 12 مليار دولار أيضاً. (كنعان، السياسة المالية والنقدية السورية_ مؤتمر سورية الأم).
فإذا ما كانت الحكومة لم تنفق هذه الأموال، وتقشفت لتخفض العجز إلى 86 مليار ليرة فقط، فلماذا زادت كتلة النقود الصادرة في ذلك العام وبمستويات تتراوح بين 470- 580 مليار ليرة؟ وأين أنفقت هذه الأموال الصادرة طالما أنها لم تصرف على النفقات العامة الجارية والاستثمارية؟

عندما تمارس الحكومات في ظروف استثنائية حربية خطة تقشف بهذه القسوة، وتقلص إنفاقها بمقدار الثلثين خلال سنة واحدة، فإن هذه السياسة يمكن تسميتها «سياسة انسحابية» من الحياة الاقتصادية في الظروف الصعبة، وترك شؤون معيشة الناس وظروف إنتاجهم ودخلهم لقوى السوق، تلك التي تجد في الحروب فرصة استثنائية. وتصبح هذه السياسة الحكومية غير مفسرة على الإطلاق عندما تستمر عمليات إصدار النقود، وزيادة الدَّين دون أن تدخل هذه النقود في الإنفاق العام الحكومي... لتتحول عملياً إلى السوق أيضاً وتساهم فقط في التضخم، وتراجع قيمة العملة، وبالتالي في إفقار الأجور وإثراء الأرباح.