فرط (القوة الاقتصادية)... ضعف أمريكي
ينفذ الرئيس الأمريكي ترامب تدريجياً برنامجه الانتخابي وما وعد به... ولا يمكن أن يكون البرنامج الانتخابي في الولايات المتحدة هو برنامج هذا المرشح أو ذاك، بل هو حصيلة استراتيجية قوى المال الكبرى لمرحلة قادمة. فترامب سيرفع أسعار الفائدة، ويزيد الدَّين الأمريكي، ويفتح معركة تجارية عبر العالم...
بدأت الولايات المتحدة صراعها الداخلي، والعالمي، حول إجراءات رفع التعرفة الجمركية، والتراجع عن حرية التجارة العالمية، فبعد التعرفة الجمركية على الحديد والألمنيوم، وقع ترامب إجراءات لرفع التعرفة على البضائع الصينية، بمقدار 60 مليار دولار.
الرد الصيني قوي ومحدد، فالصين تكرر: لا نريد حرباً تجارية، ولكن إن أرغمنا عليها سنخوضها، كما دعت الصين إلى الحوار لحل المسائل التجارية. ثم لوحت بفرض تعرفة جمركية على قائمة من 128 سلعة أمريكية، ولكنها تركت توقيعها لآخر الشهر الحالي، وستكلف الولايات المتحدة 3 مليارات دولار.
إلا أن الرد الصيني جاء في الموضع الأقوى، وهو عملياً قدرتها على التأثير على الدولار العالمي، حيث أعلنت الصين أنها ستطلق سوق (البترويوان) يوم الاثنين 26-3-2018 في شانغهاي. وهي عملياً إطلاقٌ لأوراقٍ ماليةٍ صينيةٍ جديدةٍ، لشراء عقود النفط المستقبلية باليوان القابل للتبادل بالذهب، وليس بالدولار كما جرت العادة.
ما يعني فتح احتمال إزاحة الدولار من جزءٍ هامٍ من سوق النفط، حوالي 17% منه، حيث أصبحت الصين المستورد الأكبر للنفط، وبلغت مستورداتها في الشهرين الأولين من العام الحالي أكثر من 9 مليون برميل يومياً.
كما أن الصين أشارت إلى أن كل الاحتمالات بالرد قائمة، ومن بينها تخفيض شراء الصين لسندات الخزينة الأمريكية، وهي التي تملك ما يقارب 1,2 تريليون دولار منها، وأكبر مشترٍ لها. وعملياً فإن الصين بدأت بتخفيض شرائها في بدايات العام الحالي، حيث قلصت مشترياتها الشهرية من الدين الأمريكي بمقدار 17 مليار دولار خلال الشهر الأول من 2018. وهذا الاتجاه يعني عملياً تسريعٌ بتخفيض قيمة الدولار.
الحرب التجارية التي يعلنها ترامب انتقلت مباشرة إلى معركة عملات، حيث انخفض الدولار خلال الأسبوع الماضي بمقدار 0,7% نقطة... وانتقلت أيضاً إلى اضطراب في أسواق الأسهم بالدرجة الأولى، التي انخفضت عبر العالم، وفي الولايات المتحدة. حيث تراجع مؤشر داو جونز بنسبة 3% تقريباً، ومؤشر S&P 500 وناسداك بمقدار 2,5%. وكذلك في اليابان حيث أغلق مؤشر نيكاي على انخفاض بنسبة 4,5%. وهونغ كونغ 2,45%، أما شانغهاي فبنسبة 2,86%، وفي سيؤول 3,37%.
بالمقابل ترافق هذا التصعيد الاقتصادي الأمريكي، مع إجراءات اقتصادية أخرى في الولايات المتحدة، حيث تم رفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة لتصل إلى نطاق مستهدف يقارب 1,5-1,75%، بعد أن كانت أسعار الفائدة الأمريكية قريبة من الصفر، طيلة العقد الماضي، الذي عقب الأزمة المالية العالمية. كما ستستمر وتيرة الرفع خلال العام الحالي. ويضاف إلى هذا أن الرئيس الأمريكي وقع على الميزانية الأمريكية بدين حكومي 1,3 تريليون دولار جديدة، ستضاف إلى الدين الأمريكي العام. الذي وصل إلى أعلى مستوياته وفاق 21 تريليون دولار.
تتخذ الولايات المتحدة كل الإجراءات التي تدفع نحو اضطراب اقتصادي عالمي واسع النطاق، وتمارس في هذا سلوكاً يشبه سلوكها السياسي العالمي بنشر الفوضى، فهي تسعى لتسعير الاشتباك الاقتصادي، وإدامته. لأن الاضطرابات الاقتصادية، والأزمات، توقف تقدم الآخرين: تضغط على الصينيين بالدرجة الأولى، وتؤخر عمليات تشكيل بدائل مالية ومؤسساتية أقل هيمنة أمريكية، وتعيق الانفتاح الأوروبي الاستثماري على أوراسيا، وغيرها من مؤشرات عالم اليوم المتغير مع هيمنة أمريكية أضعف.
لازال لدى الولايات المتحدة أدوات، أهمها: منظومة المال العالمي، عبر الدولار والدَّين والمؤسسات المالية الكبرى، ولا زال لديها حصتها الكبرى من التجارة العالمية كأكبر مستورد عالمي، وهي تستخدم هذه الأدوات اليوم قبل غدٍ في إثارة الاضطراب ودفع الآخرين للتنازل... لأن أدوات القوة الاقتصادية هذه ذاتها تتراجع تدريجياً، وتتراجع القدرة على استخدامها في وجه تقدم الآخرين.