(بلاد الظل)

(بلاد الظل)

3 ملايين سوري من المشتغلين في عام 2010 كانوا يعملون في القطاع غير المنظم، أي: أن اقتصاداً كان قادراً على تشغيل نسبة 60% من العاملين السوريين كان ينمو ويتوسع في الظل... هذا ما قدرته بعض الدراسات السورية عن (اقتصاد الظل) قبل الأزمة، وما وصل بتقدير آخر اليوم إلى نسبة 78% من إجمالي الدخل الناجم في سورية.

لماذا يبتعد النشاط الاقتصادي السوري عن العلاقة مع المؤسسات المختلفة لجهاز الدولة؟ وربما السؤال الأكثر صحة: لماذا قد يتعامل معها؟!
على ماذا تدل
(غلبة) اقتصاد الظل؟
عندما نقول: اقتصاد الظل، فإن هذا يعني: أن 60% وصولاً إلى قرابة 78% من النشاط الاقتصادي، أي: حياة الناس ودخولهم وظروف عملهم، لا تحصى ولا تتوفر معلومات عنها، أي: مجهولة إحصائياً، وستفقد بالتالي السياسات الاقتصادية والاجتماعية أو حتى القانونية فاعليتها، وقد تكون هذه أهون الشرور!
ثم إن هناك كتلة هامة من الضرائب لن تجبى من الأعمال الناشطة في الظل، وتتراجع الإيرادات العامة، والإنفاق العام وهلم جراً... كما أن هذا النشاط العامل في الظل لا يحكمه أي قانون، ولو شكلياً، سوى قوانين السوق والقوة، فلا ضمانات لعمّالهِ ولا حقوق، وكلّما توسّع ساهم بتشغيل المهمشين، ولكنّه حافظ على تهميشهم وهشاشة استقرارهم، وأثّر على أجور العاملين في السوق النظامية وخفضها.
والأهم: أن هذا الاقتصاد العامل في الظل لا يمتلك القدرة على التوسع إلا أفقياً، وبمستوى محدد من النشاط الاقتصادي، فلا يستطيع أن يحقق نقلات تكنولوجية نوعية في القطاعات، وهو يعتمد على تقليص الأجور بالدرجة الأولى، بالتالي الإنتاجية فيه منخفضة، وهو يرتبط بالإنتاج البسيط والصغير العامل على هامش قطاع الصناعة، وبالخدمات، وهو تعبير عن مستوى تخلف الأداء الاقتصادي، وعن سيادة الإنتاج الصغير البسيط ذي القيم المضافة المنخفضة.
وأخيراً والأهم: إن هذا النشاط يعتبر واحةً غنَّاء للفساد، حيث تتربص به قوى الفساد التي (تلوّح بالقانون) لتغنم من المنتجين والأموال العاملة دون ترخيص أو تنظيم، والضرائب التي لا يدفعها هؤلاء للمال العام، يدفعونها لقوى الفساد التي تغطي عنهم، والتي توظف أموالها أيضاً في الظل. وعندما يكون جلّ النشاط الاقتصادي محكوماً بالدفع لهؤلاء، ومصدر دخل لهم، ومحكوماً بأداءٍ إنتاجي اقتصادي ضعيفٍ وغير قابلٍ للتطور والتوسع، فإن اقتصاداً كالاقتصاد السوري بنسبة 60-78% قطاع ظل، وظروف حرب، يصبح ملاذاً لاستقرار الاستثمار في الأنشطة الإجرامية وغير المشروعة.
إذاً النسبة الكبرى لاقتصاد الظل في سورية قبل الأزمة وخلالها، هي واحدة من التعبيرات الهامة: عن فقدان الارتباط مع جهاز الدولة والمؤسسات، وعن عدم كفاءة الإحصاء والسياسات، وعن تخلف وتراجع البنية الاقتصادية الإنتاجية، وعن وضع استقرارٍ هشٍّ للنسبة العظمى من العاملين بأجر في هذا القطاع، وعن حصةٍ هامةٍ للفساد من التغطية على أكثر من نصف الاقتصاد السوري، وعن فرصةٍ هامةٍ لرؤوس الأموال الإجرامية لتعمل في بلادٍ أكثر من نصف اقتصادها مخفي ومحمي بقوة الفساد، وتتوفر لديها الشريحة الأوسع من القوى العاملة السورية التي تبحث عن أي مصدر دخل.
كيف نشأ ولماذا توسع؟!
يبتعد النشاط الاقتصادي عن العلاقة مع المؤسسات، وما يتطلبها من تنظيم وترخيص وإحصاء وجباية، لسبب بسيط أن هذه العلاقة لم تعد تحقق له المنفعة، بل تشكل عبئاً اقتصادياً عليه.
فجهاز الدولة ومؤسساته الاقتصادية، لم تعد المحرك الأساسي لتوليد الثروة الجديدة، وخلق القيم المضافة، وبالتالي ليست عنصر جذب للموارد الاجتماعية متمثلة برؤوس الأموال، وبالقوى العاملة. فعندما تتراجع المساهمة في التكوين الرأسمالي من 64% إلى 40% خلال عشرة أعوام بين 2000-2010، فهذا يعني أن الثروة تنتج في مكان آخر، والحافز الأساسي للتفاعل مع المؤسسات قد فُقد.
لم يكن المال العام محفزاً للعملية الإنتاجية، ولم يجذب الموارد لتعمل بالضوء، وتكسب من العلاقة مع المؤسسات، بل على العكس فالفساد المتحكم بهدر جزءٍ كبيرٍ من المال العام كان يحفز قطاع الظل، ويتغذى من وجوده.
إذا قيمنا عملياً المحفزات التي تدفع قطاع الأعمال الصغيرة والكبيرة للتعامل مع المؤسسات، لم يكن هناك دافع جدي سوى الميزات النسبية المتعلقة بقطاع الطاقة: دعم الكهرباء والمحروقات الذي كان يتراجع قبل الأزمة، والأهم: أنه كان من الممكن الحصول عليه عبر (سوق ظل المال العام)، أي: عبر العلاقة مع الفساد الذي يتحكم بتوزيع جزءٍ هامٍ من المحروقات، والذي يستطيع أن يغطي على عمليات سرقة الكهرباء الواسعة التي تحدث في القطاع المنظم وغير المنظم. والأمر ذاته في التجارة على سبيل المثال، حيث كلما توسعت السوق التي تحتاج للطرق غير النظامية للعلاقة مع الخارج، كلما وجد الفساد فرصة في تأجير المعابر والتحاصص من البضائع العابرة ضمنها. وهكذا فإن المهدور من المال العام عبر الفساد، يتحول إلى سوق الظل مقابل ربحٍ وحصةٍ للفساد.
ويصبح توجه الموارد إلى العمل في الظل موضوعي، طالما لا يتواجد سوى الكثير من العراقيل البيروقراطية، والكلف في العلاقة مع المؤسسات، بينما تتواجد فرصة لتخفيض التكاليف في الظل، مقابل حصة للفساد يفاضل السوريون أنهم كانوا سيدفعونها مرغمين بهذا الشكل أو غيره!
الفساد الكبير (يمصُّ دمَ) الجميع!
لا يمكن أن ينفصل توسع قطاع الظل، عن توسع حصة الفساد وتحوله إلى محدد لعمل المنظومة الاقتصادية، فالفساد ينهب المال العام ويقلل فعاليته، ويبيع لسوق الظل ويأخذ منها الحصص والأتاوات، ويشغّل أمواله فيها. ويصبح أكثر من نصف الموارد وقوى العمل السورية مدفوعة موضوعياً للعمل في الظل، هناك حيث يتوسع إنتاج الثروة وحيث تدور... فـ 48% وأكثر من 1,3 مليون من العاملين في القطاعات الإنتاجية (زراعة+صناعة+بناء+نقل وتخزين) كانوا يعملون في الظل في عام 2010و700 ألف منهم يحملون شهادة ابتدائية أو ما دون، وبالمقابل نصف الإنتاج الحقيقي كان ينتج هناك تقريباً، ولكن بمعدلات إنتاجيةٍ وأداءٍ وأجورٍ أقل.
ويشكل ما سبق كله من هدر المال العام، وعمل أغلب القطاع الخاص في الظل، بيئة كابحة لأي تطور إنتاجي ومعيقاً لرفع مستوى الإنتاج والإنتاجية، وبالمقابل هي بيئة غنية لعمل المال غير المشروع، وبيئة هشة اقتصادياً واجتماعياً، وجاهزة لاستقبال أي نشاط إجرامي كما في التحول الذي حصل خلال الأزمة...
هل من حل اقتصادي؟!
عندما تكون المشكلة كما في (قطاع الظل) ذات نتائج اقتصادية واجتماعية وسياسية، فإن حلها لا يمكن أن يكون اقتصادياً فقط.
فلن نستطيع أن ننقل الموارد لتعمل في الضوء، إلا إذا خلصنا البلاد من (العفن) الناشئ عن نهب الفساد الكبير للموارد العامة، وتسلطه على الموارد والقوى العاملة التي تعمل في الظل، ساعية نحو رزقها. وعملية التخلص من الفساد الكبير عملية اجتماعية سياسية، ستتيحها المراحل القادمة.
ولكن ينبغي البحث عن حلول اقتصادية في تلك الظروف تؤمن: 1- استعادة الأموال الكبرى التي نهبها الفساد وبيّضها 2- استخدام سلطة المال العام على النقد وإصداره، وعلى الطاقة وإنتاجها وتوزيعها لربط كل النشاط الاقتصادي بالمؤسسات 3- استخدام الموارد العامة لتحفيز إنتاجي للنشاط الاقتصادي بدعمٍ وتمويلٍ تكنولوجي مربوطٍ بالحسابات النظامية للمنتجين الفعليين... وغيرها الكثير من المحددات التي ستخلقها اللحظة الراهنة، ولكنها تقوم بالجوهر على توسيع الموارد العامة، ووضعها تحت سلطة الشعب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
832