العالم لم يعد غربياً.. والإعمار كذلك
إعادة الإعمار كلمة مشؤومة في أذهان أغلبية السوريين، بينما (يسيل لها لعاب) قلة آخرين... فبينما يتخيلها أغلب السوريين كمرحلة تتم فيها المحاصصة بين قوى الفساد والمال، فإن قوى الفساد والمال لا تستطيع أيضاً إلا أن تعتبر إعادة الإعمار فرصة للصفقات والتوافقات، وإعادة تحاصص مواقع السلطة والنهب.
بعد تجربة عقود عديدة من تراجع الأحوال المعيشية وتراجع البناء الاقتصادي في سورية، أصبحت غالبية السوريين تشعر بأن تحقيق خروقات جدية في مسار البلاد الاقتصادي، ومعيشة غالبية أهلها، وتنميتهم هو أمر أشبه (بالأمل الكبير غير الواقعي)، وكأن الفساد والنهب هو حقيقة لا يمكن تغييرها، ومعطى اقتصادي واقعي ينبغي التكيف معه، حتى أن الإعلام وبعض الأكاديميين يروجون لهذا بمقولة: (الفساد موجود في كل مكان)!
ولكن ينبغي ألا ننسى أن التراجع السابق في الوضع الاقتصادي المعيشي، وانتعاش قوى السوق والمال، يرتبط أيضاً بعوامل سياسية هامة ومترابطة: محلياً ودولياً. فمحلياً معظم القوى السياسية السورية كانت (مسحوبة الدسم) والأدوات، وبعيدة عن السوريين بعداً كلياً، إما بإرادتها أو بإرداة (الواقع الديمقراطي) في سورية الذي نستطيع أن نضع له من عشرة علامة (-10)، وبالمقابل السوريون كذلك (عافوا السياسة) وأهلها لعقود. وعملياً عندما تتراجع قدرة القوى السياسية الوطنية لتمثيل مصالح الناس، والدفاع عن البرامج التي تمثل مصالحهم، فإن قوى المال والفساد تتغول سياسياً واقتصادياً.
أما دولياً فإن العقود التي سبقت أزمة الرأسمالية العالمية، كانت عقود الحكم الأمريكي المفرد للعالم، بما يعنيه هذا من امتداد هيمنة النموذج الغربي عسكرياً وسياسياً، وبالطبع اقتصادياً دون منازع، مع ما يترتب عليه هذا من دعم مباشر وغير مباشر للأقلية المهمينة في كل دولة من دول العالم، والتي تمتص الثروة ونتاج عمل الشعوب، وتودعها خزائن المال العالمي، وتدخلها في دورة الدولار العالمية لترتبط ارتباطاً عميقاً اقتصادياً وسياسياً بالغرب ودولاراته. ولهذه العقود من الهيمنة الغربية تأثيرها العميق على العمل السياسي في كل دولة من دول العالم، (فحرامية) الرأسمالية الصغار التابعين في دولنا وما يشبهها، مدعومون بقوة ونفوذ (كبار حرامية) العالم، الذين يسعون جهدهم للحفاظ على النموذج الاقتصادي الليبرالي الذي يخلق قوى حاكمة فاسدة وتابعة ومرتبطة بالغرب.
وبالعودة إلى إعادة الإعمار، فإن كل النماذج الاقتصادية لما بعد الحرب في دول المنطقة على سبيل المثال كلبنان والعراق وأفغانستان، وفي دول أخرى ككوسوفو وألبانيا والكونغو وغيرها، كانت نماذج ضمن العقود السابقة، حيث كانت النتائج السياسية لهذه الحروب تتيح ترسيخ (دول مهلهلة) بقلة حاكمة مرتبطة، وببرنامج (إعمار أممي- أمريكي)، وبنتائج اقتصادية سياسية تدفعها شعوب هذه الدول مزيداً من التدهور والفوضى وعدم الاستقرار بعد (الإعمار)، أي: عملياً عدم الخروج الجدي من الحرب والأزمات.
فيكون إعمار لبنان خليجياً-حريرياً مدعوماً من الإسكوا، لينتج حالة غير قابلة للاستقرار، ومبنية على توازن الفساد بين أمراء الحرب، ويكون إعمار العراق نموذجاً استثنائياً في أرقام الفساد ترعاه (المنظمة غير الحكومية) USAID، ويقوم على تحاصص قطاع النفط العراقي، وتكون النتيجة على سبيل المثال: أنّ أكبر خزان للنفط العالمي لا يستطيع إنتاج الكهرباء بعد أكثر من عشر سنوات من احتلاله، و(إعادة إعماره)، وتكون النتيجة في أفغانستان، أن تتحول المنظمات الأممية، ومنظمات المجتمع المدني الدولية، إلى إدارة شؤون البلاد بعد الحرب، وحتى إلى الدخول في إدارة شؤون قطاع المخدرات، الذي أصبح منظماً ومزدهراً بعد الدخول الأمريكي، والأمثلة كثيرة...
هل نستطيع أن نكون النموذج الجديد؟
ولكن ماذا عن سورية؟ ولماذا لا نكون نموذجاً جديداً آخر؟...
الاحتمال موجود، لأن مسعى قوى المال والفساد المحلية، يلاقي محاولات جاهدة من الغرب لفرض نموذج إعمار، ممول من توازنات السياسة العالمية ومن الخاسرين، كأن تدفع قطر على سبيل المثال لا الحصر الثمن! وأن تنعم الشركات الغربية باستثمار هذه الأموال، وبعوائد أرباحها، وأن يكون زبانية قوى المال المحلية وسطاء وسماسرة يسوقون مجدداً للغرب وشركاته واستثماراته كما كانوا يفعلون... وتلاقي هذه الجهود أيضاً النماذج الاقتصادية التي تضعها الإسكوا منظمة الأمم المتحدة في المنطقة، والبنك الدولي لإعمار سورية، تلك النماذج التي تغازل قوى المال المحلية. بوجوه مألوفة كالدردري، بل وبمشاريع لا تبتعد إطلاقاً، بل تتقاطع حتى بالأرقام مع خطط الليبرالية الاقتصادية السورية، كالخطة الخمسية العاشرة، والحادية عشْرة.
ولكن هذا الطموح الغربي- المحلي، دونه عقبات جدية أهمها: أن اللحظة الحالية دولياً ومحلياً مختلفة تمام الاختلاف عن بداية التسعينيات في لبنان على سبيل المثال، (فالعالم لم يعد أمريكياً)، وهو ما يعني أن هيمنة نموذجهم الاقتصادي قد اهتزت بعمق، وأصبحت مدانة ومجرّبة، ولكن الأهم: أنه لم تعد لديهم القوى الكافية لفرضها كخيار وحيد، فالخيارات مفتوحة في نماذج اقتصادية أخرى عالمياً، والفارق هام وملفت على سبيل المثال بين نموذج التعاون الصيني، ونموذج الفرض الغربي...
ولكن نقطة أخرى عالية الأهمية في هذا السياق هي تفاصيل ومسار الحل السياسي في سورية، أي: اللحظات الحالية والقليلة القادمة، والتي ستتضمن الإجابة على سؤال: هل سيكون لدينا مركز سياسي قوي ومتوازن، وقادر على الحفاظ على مؤسسات الدولة قوية وفعّالة؟ فدون هذا المفصل، سيكون أمامنا واقع دولة هشة ومراكز قوى متعددة، وهذا الواقع يخدم النموذج الليبرالي في إعادة الإعمار.
على الحلول السياسية أن تؤمن للمرحلة القادمة مركزاً سياسياً وطنياً متوازناً، يتبنى خطة إعمار وطنية، ويضع معايير وطنية للتمويل والاستثمار. والعوائد، والأهم التوزيع. وضمان وجود هذا المركز يتطلب وجود قوى سياسية وطنية (كاشفة للألغام ومفككة لها) وقادرة على تحديد الأهداف المرحلية وجمع الوطنيين حولها، والأهم أنه يتطلب أن يتاح الظرف للشعب السوري ليعود إلى الحراك السياسي، والدفاع عن مصالحه، ودفع وتقويم القوى السياسية الجدية، وتحجيم تلك القوى متنوعة المشارب والتلاوين والتي تمثل مصالح الأقلية الناهبة... فهل ستتوفر في السوريين ميزة (الوعي السياسي) الكافي لالتقاط فرصة اللحظة التاريخية؟! ربما لنجيب عن هذا بالإيجاب علينا أن نتذكر أن اللحظة التاريخية المشابهة من الصعود والحراك السياسي العالمي في النصف الأول من القرن العشرين، تشهد للسوريين بميزات سياسية نوعية، بعد أن استشهد وزير دفاعهم ليعلن موقفاً سياسياً مشرفاً في ميسلون، ويعطي شرارة للثورة السورية الكبرى، التي جعلتنا أول الدول التي حازت استقلالها، بفعالية سياسية عالية للسوريين، استفادت من انتهاء زمن الاستعمار القديم، وتوازن القوى الدولي في حينها...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 819