القروض المتعثرة والجديدة.. «الحكي السهل والفعل الصعب»

القروض المتعثرة والجديدة.. «الحكي السهل والفعل الصعب»

(300 مليار ليرة إقراض للقطاع الإنتاجي) والكثير من الحديث الحكومي حول تحريك عجلة الإقراض المتوقفة منذ عام 2012 بشكل كلي تقريباً، إلا أن هذا الملف يأتي دائماً مع عبء القروض المتعثرة وملفها الشائك، فالمنطق يقول: إن توسيع الإقراض يرتبط بحل التعثر، وأكثر من ذلك بمنع أسبابه، وتوفير شروط نجاح الإقراض... ولكن كيف؟!

الخسارة 2.5 مليار دولار!

لا تقديرات جديدةً للقروض المتعثرة، وتحديداً بعد الحديث عن تسويات عقب مراسيم الإعفاء، إلا أن المؤكد أن كتلة القروض المتعثرة في عام 2013 كانت تبلغ: 234 مليار ليرة تقريباً، نسبة 14% منها للمصارف العامة، وهذا المبلغ كان يعادل في نهاية عام 2012: 3 مليار دولار، بسعر الصرف الرسمي 74.9 ليرةً مقابل الدولار، بينما أصبح يعادل اليوم 420 مليون دولار تقريباً، أي: أن تسديد مجمل المبلغ اليوم بالليرة يتضمن حكماً خسارةً بمقدار ارتفاع سعر الصرف أي حوالي 2.5 مليار دولار، يقدر البعض قيمة الفوائد والغرامات على القروض بحوالي 70% من قيمة القروض، أي، ما يقارب 290 مليون دولار بسعر صرف اليوم، فالخسارة تشكل نسبة 83% من قيمة الأموال في حينه، بينما تعويضات الفوائد والغرامات لا تشكل نسبة 10% إن دفعت!

ينبغي التذكير بأن هذه القروض نجمت عن موجة التوسع في الإقراض لأصحاب الملاءة المالية منذ عام 2005، ودون ضمانات جدية، بالإضافة إلى لعب بعض المصارف دور الوسيط في إيصال قروض بنك الاستثمار الأوروبي لرجال الأعمال، والتي كانت نسبة 52% منها للاستثمار السياحي، ليكون لهؤلاء النصيب الأكبر من التعثر حتى قبل الأزمة، أي: عملياً الامتناع عن السداد، لتتحول أموال القروض إلى جزء من الـ 20 مليار دولار التي هربت من سورية خلال الأزمة، وبالمقابل هناك شريحة من المتعثرين تعود إلى قطاع الأعمال وتحديداً الصناعي الذي تعثر بعد بدء الأزمة، ونتيجة ظروف توقف الإنتاج وصعوباته.

التصريحات إيجابية ولكن!

تحاول الحكومة اليوم البحث في إمكانات التمويل التنموي الإنتاجي للسيولة المتراكمة في المصارف والتي قاربت في 2016: 1700 مليار ليرة، وتحاول في هذا السياق أن تؤكد على (تلافي أخطاء الماضي والتأكد من لجم التعثر قدر الإمكان) كما قال رئيس الحكومة، وأن تضع محدداتٍ وشروطاً كما جاء في حديث حاكم المصرف المركزي الذي تحدث عن نسبة 50% من التمويل للقطاع الإنتاجي، للجهات القادرة على الإقلاع السريع، والتي تنتج السلع الحيوية والضرورية، والتي تكون مصدراً للتمويل بالقطع الأجنبي، وتولد فرص العمل المكثفة، وبشكل يقي المركزي من سيناريوهات التعثر، وبالشكل الذي يجنّب وصول الأموال إلى المضاربين، بل إلى المستثمرين الحقيقيين لتوليد القيم المضافة منها.

ومجمل ما ذُكر من النوايا والتصريحات والمحددات إيجابي، ولكن يبقى السؤال كيف؟ وما الضمانة؟

التمييز بين الهاربين والمتعثرين

بما يخص ملف القروض المتعثرة، فإن التمييز بين الهاربين، وبين غير القادرين على السداد هو ضروري، فالأوائل ينبغي ألا تطالهم الإعفاءات من الفوائد والغرامات، بل ينبغي البحث في تسوية ملفاتهم على أساس تغريمهم أيضاً بخسارة قيمة الأموال التي خرجت من سورية، كغيرهم ممن أخرج أمواله من البلاد، وبالمجمل فإن هذه العملية لن تنجح إلا عندما يسعى هؤلاء للعودة لتسوية أوضاعهم، أي: في ظرف ارتفاع العائد ومعدل الربح في سورية، ووجود جدوى استثمارية عالية في مرحلة مقبلة، وليس الآن، إلّا أن الأهم هو إيجاد السبيل القانوني على الأقل، لإيقاف عملية تهريب الأرباح ورؤوس الأموال من سورية، ومنع إخراجها، الأمر الذي لم يتم جدياً إلى اليوم!

أما بما يخص المستثمرين في داخل سورية، والذين يحاولون الاستمرار بالعمل، فإن البحث في معرقلات إقلاع ونجاح واستمرار عملية الإنتاج في الظروف الحالية، هو الضمانة في ألّا يتجه هؤلاء بالأموال إلى المضاربة، أو إلى حماية قيمتها بشراء العقارات، أو الدولار أو غيرها. ينبغي البحث عن الحوافز الموضوعية لتشجيعهم على الاستثمار الإنتاجي، لكي يكون مجدياً ومضموناً العوائد، ليستطيع هؤلاء أن يسددوا ما اقترضوه مع فوائده وتلتغي الظروف الموضوعية للتعثر.

كيف ينجح الاستثمار الإنتاجي؟!

إن كل حديث عن الاستثمار والنمو في الظروف الحالية، يعيدنا إلى نقطتين أساسيتين: الكلف المرتفعة من جهة، والاستهلاك المنخفض بشكل قياسي من جهة أخرى. فإن كنت تريد أن توظف أموالك في  قطاع الإنتاج، بينما مستلزمات الإنتاج الأساسية كالطاقة غير متوفرة باستمرار، وبأسعار مناسبة، فإنك لن تضمن أن تحقق أرباحك من بيع بضاعتك في السوق، لأن إمكانات رفع أسعار السلع المنتجة محدود بعدم قدرة غالبية السوريين على مجاراة ارتفاع الأسعار، طالما أجورهم تنخفض قيمتها الحقيقية، أي: أن البضاعة لن تباع والربح لن يتحقق، والخسارة هي احتمال جدي ووارد في كل دورة إنتاجية، زراعيةً كانت أم صناعيةً، وبما ينسحب أيضاً على الاستثمار التجاري والمصرفي بمختلف مستوياته. ولذلك فإن كل من يملك أموالاً ويتحسس الخسارة سيسعى إلى تحصيل أرباحٍ من مجالات مضمونة وأبرزها المضاربة على تغيرات قيمة الليرة.

إن نجاح عملية الاستثمار والنمو، تتطلب حدوث انتقال في مستوى الأسعار باتجاه الانخفاض، لتنخفض تكاليف مستلزمات الإنتاج، وترتفع المقدرات الشرائية والاستهلاك، أي يتطلب بالعمق رفعاً مباشراً لقيمة الليرة السورية، لتصبح الليرات التي تضخ في سوق الإقراض للإنتاج، ذات جدوى أعلى، ولهذا تأثيراته على قطاع الإنتاج التصديري، وعلى إمكانات الإنتاج المحلي، وعلى استرداد القروض وفوائدها.

10% من الموازنة تحرك عصب الإنتاج

مستوى الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد السوري، لا ينبغي التعامل معه بالنقاط وكأننا في ظرف طبيعي، بل الوضع يحتاج إلى (انتشال) عبر إجراءات نوعية لتخفيض المستوى العام للأسعار، الأمر الذي يعتمد على قطاع الطاقة بالدرجة الأولى، وقبل كل شيء، ينبغي العودة إلى دعم أسعار المحروقات بشكل فعلي، وليس على أرقام صفحات مشاريع الموازنات!

وهنا ينبغي التذكير بالأرقام التقريبية والكلف لإجراءات من هذا النوع، بالمقارنة مع عوائدها التي تنسحب لتؤثر في المشاكل الاقتصادية الأخرى كافة.

إن كلف تأمين حاجاتنا من الطاقة لمدة عام تبلغ قرابة: 2.5 مليار دولار، على اعتبار أن الحاجات الشهرية من النفط 3.5 مليون برميل، والسعر 51 دولاراً للبرميل، وفق ما صرح رئيس مجلس الوزراء مؤخراً.

أما دعم منتجات الطاقة بنسبة 20% يعني تكلفةً تقارب 500 مليون دولار، وحوالي 275 مليار ليرة أي: نسبة: 10% من موازنة عام 2017، التي تضع على الورق أرقاماً لدعم الطاقة تفوق هذا الرقم، وتبيع المحروقات بسعر محرر أو قريب من التكلفة.

إن 10% من الإنفاق الحكومي على الدعم الفعلي للطاقة، كفيل بتخفيض كلف الإنتاج بنسبة 20%، وكفيل بتخفيض تكاليف النقل والتدفئة بالنسبة ذاتها، أي: زيادة مباشرة في القيمة الحقيقية للأجور، وتخفيض في المستوى العام للأسعار، تزيد من إمكانيات الإنتاج، والاستهلاك معاً.

وحتى لا تكون الأسعار المنخفضة طريقاً لتهريب المحروقات، وتوسيع سوقها السوداء المهيمنة، ينبغي تحويل الدعم إلى مستحقات مالية مباشرة بالليرة السورية، للمنشآت الإنتاجية وللمزارعين ولقطاع النقل وللأجور، بناءً على التقدير الموضوعي للحاجات الاستهلاكية كفيل بحل المشكلة، وقد أجريت دراسات حكومية منذ عام 2013 على كيفية إجراء تفصيلي لهذا الشكل من الدعم، وبحثت عملية توزيع الدعم على شرائح إلّا أن الحكومات السورية أخذت منها تحرير أسعار الطاقة وأهملت دفع الفرق نقداً، وأجري تحرير أسعار الطاقة و(عقلنة الدعم).

إن الحديث عن تسويات للأموال وإقراض للمنتجين، هو حديث عبثي طالما أن الشروط الموضوعية لنجاح الاستثمار ليست مؤمنةً، وهو سيتحول إلى موجة تعثر جديدة، وإلى أموال هاربة أو سيولة موظفة في المضاربة بالضرورة، (فسواد عيون) موظفي الحكومات المتبدلين وتصريحاتهم، التي تحاول أن ترتدي لبوساً جديداً وجدياً، تتلاشى عندما تنظر السوق إلى الوقائع: فحكومة لا تنفق إنتاجياً، ولا تمنع تهريب الأموال، ولا تقوم بأي إجراء جدي لتقوية الليرة المتراجعة، يعني استثماراً في المضاربة حكماً، لذلك إن تم الإقراض فإن 1700 مليار ليرة ستتلاشى في السوق، ويبتلعها التضخم والربح المضاربي، ما لم تقم السياسات الاقتصادية بضربات جدية، لرفع قيمة الليرة وتخفيض المستوى العام للأسعار.

(الحكي سهل) عن وعود الحكومة بالإقراض الإنتاجي، ولكن الفعل الجذري المطلوب هو تحريك الإنتاج، وليس الاعتماد على الاقتصاد الليبرالي في ظل الحرب!

معلومات إضافية

العدد رقم:
808