يساريو الغرب يريدون: «رأس مال للشعب»!
يتفق الجميع اليوم، أن طريقة توزيع الثروة عالمياً، هي واحدة من أكبر التحديات العالمية، فأصبحت تسمع هذا الرأي ليس فقط من الشيوعيين الجدّيين العاملين في السياسية، بل تسمعه من موقع القيادة في المؤسسات الاقتصادية الدولية الأمريكية، كصندوق النقد الدولي ورئيسته كريستيان لاغارد!
يتساءل البعض تساؤلاً جدّياً: إذا ما كان توزيع جزء من الربح، يتيح استعادة عجلة الاستهلاك والنمو، فلماذا لا يقوم به أصحاب رأس المال؟! وهل هذا ممكن؟!
يذهب البعض إلى «مقترحات ثورية» لمسألة توزيع الثروة، ويبدو ملفتاً ما يطرحه يانيس فاروفاكس، وزير المالية اليوناني السابق، المستقيل من حكومة سيريزا، التي تصنف على أنها (يسار متطرف)، المعترض على مفاوضات الدين اليوناني، والمنتقد بحدة لصندوق النقد ولسياسات التقشف التي يفرضها على اليونانيين، وقد صورت وسائل الإعلام الوزير المستقيل الشاب، خارجاً من الحكومة على متن دراجته النارية، ليظهر الأكاديمي الإشكالي لاحقاً في واحد من أهم المنابر الاقتصادية العالمية، موقع PROJECT SYNDICATE ويأخذ مساحة دورية على صفحاته! وكان آخر ما طرحه في مقاله الأخير: (الحقّ العالمي في دخل رأس المال) والذي وضع فيه «حلاً ثورياً» لمسألة «حقّ الشعب في حصة من الربح»..
«ربح أساسي للجميع»
انطلاقاً من ضرورة توزيع الثروة، يذهب فاروفاكس إلى أن (الدخل الأساسي العالمي للفقراء) هو ضرورة، أي يجب أن يحصل الفقراء جميعهم على دخل ثابت، بغض النظر أكانوا يعملون أو لا يعملون، يبقيهم بعيدين عن حدود الفاقة، ويسمح لهم باختيار المهنة التي يرغبون بها، أو أن يمارسوا أعمالاً اجتماعية غير مأجورة، ويدعم هذا شرائح واسعة مثل الفنانين، والمخترعين، والنساء اللواتي يرعين أطفالهن، والشباب الباحثين عن مجال عمل يعنيهم، وغيرهم..
ويرى فاروفاكس أن هذا يتيح تطوير إدخال الآلات، وتوسيع استخدامها في الإنتاج، دون أن تشكل مسألة البطالة ضغطاً، نظراً لتأمين الناس عبر الدخل الأساسي.
أما الأهم، والذي يطرحه الاقتصادي اليوناني، فهو مصدر تمويل هذا الدخل، حيث يرى أنه لا ينبغي أن يكون من أموال الضرائب، حيث (لا ينبغي أن يعمل أحدهم بجد ليدفع ضريبة، قد يستخدمها الآخر عبر دخله الأساسي للتعطل عن العمل) حسب رأيه.
أما من أين يمكن تحصيل هذه الموارد، فيشير فاروفاكس أنه من المفترض، أن يتم تحصيله من ربح الشركات، أي من دخل أصحاب رؤوس الأموال.
أما كيف، فيجب فرض ذلك على الشركات عبر (سن تشريع يتطلب أن يتم تحويل نسبة من أسهم رأس المال من كل طرح عام أولي إلى صندوق ودائع لرأس مال الشعب، مع الأرباح المرتبطة التي تمول الربح الأساسي العالمي. والربح الأساسي العالمي هذا يجب أن يكون مستقلاً عن مدفوعات الرعاية وتأمين البطالة وما إلى ذلك..)
أي عملياً، يجب أن يسن تشريع، يفرض على أصحاب رؤوس الأموال، أن يقوموا بالاستغناء عن جزء من رأس مالهم، ليكتبوه باسم الشعب، وليصبح الربح المحقق من هذا الجزء عائداً إلى ربح الشعب، ويحصل الشعب منه على دخل أساسي!
فهل سيقتنع أصحاب رؤوس الأموال بحل «الاقتصادي الثوري العالمي»، ليقتطعوا مباشرة من ملكيتهم لرأس المال وبالتالي من الربح؟!
«دعوة لمخالفة قانون الربح الأقصى»
إن هذه (الدعوة البريئة)، لا يمكن أن تلاقي أذناً صاغية، واستجابة من أصحاب رؤوس الأموال، لأن الهدف الأساسي من عملية الإنتاج الرأسمالي، هو السعي نحو الربح الأقصى، والقانون الاقتصادي الأساسي للرأسمالية -كما يرى ستالين- هو سعي الرأسمالية الاحتكارية نحو الربح الأقصى، وهو القانون الذي يحدد سير عمل القوانين الأخرى.
قد يكون لدى بعض الاقتصاديين الرأسماليين (أمثال فاروفاكس اليساري، أو حتى الاقتصاديين المطالبين بسياسات أخف، مثل: ضريبة على الثروة في الولايات المتحدة وأوروبا) وهماً بأن الرأسمالية في دول المركز قد «تعيد الكرّة»، وتقوم بتوسيع المكاسب الاجتماعية للطبقة العاملة في دولها، كما فعلت عقب الحرب العالمية الثانية، إلا أن الاعتقاد بتكرار التجربة، فيه عدم إدراك كامل للحظة الأزمة العميقة التي تعيشها الرأسمالية عالمياً..
فرأسمالية الخمسينيات، رأسمالية الرفاه الاجتماعي، كانت مشروطة بتوسع النهب من دول الجنوب، عبر تمتين سياسات الاستعمار الحديث في الستينيات، أي زيادة الربح من الأطراف، الذي أتاح توزيع جزء على الطبقة العاملة في المركز. أما لماذا قاموا (بالصرف على عمالهم) فالسبب يكمن بضرورة المنافسة السياسية مع نموذج الاتحاد السوفييتي، أي بضرورة رشوة الطبقة العاملة في دول المركز من جهة، وتوسيع قدرات استهلاكها لتواجه قدرات الإنتاج المتوسعة في دول المركز من جهة أخرى. إلا أن هذا كان ممكناً عندما كانت الإمبريالية عالمياً، قادرة على توسيع معدل ربحها، من توسعها أفقياً عبر العالم، ومن توسعها عمودياً عبر أدوات الاستعمار الحديث، وثم عبر هيمنة الدولار والقطاع المالي، وعبر هيمنة السلاح..
إلا أن عالم اليوم مختلف، فمراكز كبرى في دول الأطراف، تخرج تدريجياً من علاقات الاستعمار الحديث، فمنذ أن أصبحت القوى الصاعدة في آسيا تحديداً، هي محرك النمو العالمي، زادت إلى حد كبير قدرتها على فرض وزنها في التجارة العالمية، والمحافظة على كوادرها من الهجرة، وأعادت ترتيب دورها ووزنها في منظومة الدين والإقراض ومؤسساته العالمية. بل وتهاجم الدولار وما وراءه من منظومة مالية عالمية، وتهدد توسعه العالمي، عبر السعي لتوسيع علاقاتها المالية والنقدية المستقلة. وكلما احتدت الأزمة الاقتصادية العالمية، كلما اضطرت هذه الدول إلى اللجوء إلى عزل نفسها عن أدوات النهب العالمي الإمبريالية، والتركيز على مقدراتها الداخلية، وعلاقاتها المتبادلة. والأهم أنها تحاول إيقاف آلة الحرب الإمبريالية الأمريكية تحديداً عند حدها: عبر فرض الحلول السياسية، على وقع قوات الردع العسكرية المتطورة. أي أنها بهذا كله تسحب تدريجياً من مصادر الربح العالمي للاحتكارات الغربية، وتعيق الاستفادة الكاملة من البدائل العنيفة التي يعمل عليها هؤلاء..
إذا عملياً الاحتكارات الكبرى العالمية لا تمتلك مصادر ربح بديلة عن الموجود والمتراجع حالياً، وبالتالي فإنها تمارس مزيداً من الضغط على عمالها، وتسحب منذ الثمانينيات المكاسب الاجتماعية التي قدمتها سابقاً في الخمسينيات لحظة النمو الاقتصادي المضطرب، في الغرب بعد الحرب، وهي لن تقوم اليوم تحديداً بتقديم تنازلات، ما لم يجبرها العمال على ذلك، وعبر الصراع.
«تسويق الوهم»
هل لدى فاروفاكس، أو كريستيان لاغارد أو أي اقتصادي عالمي، يدعو إلى استخدام (القناعة والتشريعات) لإقناع رأس المال بتخفيض ربحه، وتوزيع جزء من الثروة طوعياً للعمال، أي وهم بأن هذا ممكن أن يتم؟!
لا نعتقد ذلك.. إن الوهم المصدّر، الغرض منه هو كبح الطرق الضرورية لإعادة توزيع الثروة، أي محاولة الفكر الاقتصادي الرجعي المتكررة لتأخير المعركة! ويستهدف الطبقة العاملة في هذه الدول، وشعوب العالم المتضررة من المصير المجهول المضطرب الذي تدفع إليه قوى رأس المال العالمي، محاولاً كبح سعيها إلى مواجهة هذا المصير بصراع سياسي مرير وضروري، أي بالثورة الاجتماعية.
يقول ماركس في البيان الشيوعي في عام 1847: (يرغب جزء من البرجوازية تخفيف الضيم الاجتماعي من أجل ضمان استمرار وجود المجتمع البرجوازي، وينتمي إلى هذا القسم اقتصاديون، وخيّرون، وإنسانيون، ومنظمو أعمال إحسان، ومصلحون ضيقو الأفق من كل صنف ونوع.. ويريد الاشتراكيون البرجوازيون هؤلاء التمتع بكل مكاسب الحياة الاجتماعية الحديثة، ويرغبون ببقاء المجتمع الحالي كما هو، ولكن خالياً من عناصر الثورة الهدّامة، يريدون البرجوازية لكن دون بروليتاريا).
تتحول «الاشتراكية الرأسمالية» اليوم إلى واحدة من أهم الآيديولوجيات الإمبريالية، الهادفة لتعطيل عملية نضوج شروط النضال الاجتماعي الثوري الضروري، بل والحتمي في مراكز العالم الرأسمالي، وأطرافه.. عبر تسويق أوهام إمكانية إيجاد حلول توافقية بين (الرأسمالية والعمال)، وهو وهم قديم يعود إلى القرن التاسع عشر..