شركات الأسمنت هدف جديد على دريئة الخصخصة
● اتحاد عمال طرطوس: القطاع الخاص أسس لثقافة الفساد
● الفساد أقصى الإصلاح ونبذه إلى قارعة الطريق
● هناك جهات لا يريحها تمسكنا بالثوابت أبداً
شركات الأسمنت هي الهدف الاقتصادي الجديد لسياسات التخلي عن القطاع العام، وما توفره الحكومة في هذه المرة طريقتان للتصويب، الأولى مباشرة عبر البدء بطرح بعض الشركات العامة للاستثمار الخاص بحجة تطويرها، والثانية غير مباشرة عبر السماح للقطاع الخاص بالهجوم على الاستثمار في هذا القطاع بحجة تنامي الطلب المحلي وعدم قدرة القطاع العام على تلبيته منفرداً، والنتيجة أن هذه السياسات ستقود في النهاية إلى وقوع هذا القطاع الحساس جداً بالنسبة لظروف سورية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في يد القطاع الخاص الذي لا يستطيع أحد تقدير عواقب استثماره فيه وله، فالمشرفون على خصخصة الاقتصاد السوري يسلمون دفة القيادة إلى القطاع الخاص لتبقى العربات الأخيرة محملة ببقايا القطاع العام فقط. ولتبقى توازنات العام والخاص لا متوازنة أبداً. إن كان السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في شركات جديدة للأسمنت لا يثير العديد من الأسئلة من الناحية الاقتصادية، إلا أن طرح الشركات العامة للاستثمار هو الذي يجب الوقوف عنده ووضع إشارات الاستفهام حوله وبجرأة وجدية مطلقة.
رابحون دائماً فلماذا الخصخصة
حظيت المؤسسة العامة للصناعات الأسمنتية في عام 2005 بأكبر نسبة اعتمادات مخصصة لها من موازنة الدولة، فقد حصلت هذه المؤسسة على نسبة 33% من إجمالي الاعتمادات الموزعة على مؤسسات القطاع العام كافة، وكانت قيمة كل تلك الاعتمادات 3.246 مليار ليرة سورية، خصص منها 2.655 مليار ليرة للمشاريع الجديدة، و306.4 مليون ليرة لعمليات الاستبدال والتجديد، في حين خصص الباقي للمشاريع المنقولة والتي لم يتم الانتهاء منها بعد، هذا يعني نظرياً ومن حيث هذه الأرقام أن هناك اهتماما حكومياً لدرجة ما بهذه الصناعة بدلالة الإنفاق عليها، ولكن ومن ناحية أخرى وهي إحدى المفارقات التي تحتاج إلى تفسير أن المؤسسة العامة لصناعة الأسمنت كانت من بين الجهات الحكومة التي نفذت أقل من نصف مخصصاتها الاستثمارية المخصصة لها في موازنة عام 2004، وبالتحديد أكثر فقد بلغت اعتماداتها الاستثمارية النهائية في ذلك العام 2.8 مليار ليرة منها 1.6 مليار ليرة بالموارد الخارجية و1.1 مليار ليرة بالموارد المحلية لكن الإنفاق الاستثماري الفعلي على الشركات لم يتجاوز 1.2 مليار ليرة أي بنسبة تنفيذ 43% فقط مما هو المقرر، يضاف إلى ذلك أن شركات المؤسسة العامة لصناعة الأسمنت وطيلة السنوات الخمس الماضية لم تشهد حساباتها أي خسارة أبداً على مستوى المؤسسة فقد حققت شركات المؤسسة في عام 2000 أرباحاً وصلت إلى 402.951 مليون ليرة، وفي عام 2001 وصلت أرباحها إلى 770.403 مليون ليرة، وفي عام 2002 وصلت إلى 1.059 مليار ليرة، وفي عام 2003 وصلت إلى 643.139 مليون ليرة، وأخيراً وصلت أرباح المؤسسة في عام 2004 إلى 1.062 مليار ليرة. وهذه الأرباح دون فوائد صندوق الدين العام وقبل تسديد الضريبة، وهذا يعني أن وزارة المالية وصندوق الدين العام سيتمتعان بحصة جيدة من هذه الأرباح السنوية. فالبرغم من المخصصات المالية المتواضعة التي تحظى بها هذه الشركات وبالرغم من عدم إنفاقها لنصف مخصصاتها الفعلية لعام 2004، وبالرغم من وضعها الفني والتكنولوجي المتقادم وبيروقراطية إداراتها، والفساد الذي يحوم فوقها، بالرغم من كل ذلك نجد أنها ما زالت تحقق أرباحاً بشكل مستمر. وبالتالي فما هو مبرر تصويب بندقية الخصخصة على هذه الشركات إذاً؟ وما هو مبرر إصرار الحكومة على ذلك إذا ما عرفنا أن المؤسسة العامة لصناعات الأسمنت قد مددت إعلان التقديم لاستثمار هذه الشركات إلى 27/2 من هذا العام بعدما كانت المدة تنتهي في 26/1/2006، ولماذا لم يتم تطوير هذه الشركات منذ أعوام سابقة على الرغم من توفر الفوائض الاقتصادية الذاتية فيها وعلى الرغم من معرفة القائمين عليها بواقعها؟ فمنذ عام 2000 وحتى عام 2005 كان بالإمكان إعادة إصلاح وهيكلة تلك الشركات بطريقة تضمن لها الاستمرارية، والإنتاجية العالية، والأرباح الوفيرة، ولكن لا غرابة في فشل ذلك التطوير والإصلاح على مستوى الشركات إذا كان هناك مشروع كامل لإصلاح القطاع العام تم وأده ودفنه دون تقديم أي مبررات مقنعة للشارع السوري. وهنا نقول إن ظروف الخصخصة والتحرير الاقتصادي ليست شعاراً وموضة بقدر ما هي حاجة نسبية تحددها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل اقتصاد، فما هو قابل للخصخصة في مصر قد لا يكون قابلاً للخصخصة في سورية لاختلاف الظروف بينهما، في حين أن الذي يحدث الآن هو تبني موجة الليبرالية دون الأخذ بحسابات الربح والخسارة الاجتماعية الحالية والمستقبلية ذات الطابع الخاص جدا في ظروف الاقتصاد السوري اليوم، والارتهان للأسهل والأسرع والأقل تحملاً للمسؤولية. إن ظروف تطوير القطاع العام ومنها شركات الأسمنت كانت على الدوام متوفرة في سورية من الناحية الموضوعية، لكن تحكم الفساد في مفاصل الاقتصاد الأساسية سمح بإقصاء الإصلاح ونبذه إلى قارعة الطريق.
هل انعدمت البدائل أم انعدم التفكير
هل انعدمت البدائل الاقتصادية أمام الحكومة السورية حتى توجهت لطرح قطاع هام جداً على الاستثمار الخاص؟ وبطريقة ثانية تنتصب الفكرة الأكثر اقتصادية من باقي الأفكار الأخرى والمبنية أساساً على طريقة مقارنة كلفة البدائل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونتائجها لطرح هذه الشركات على الاستثمار، فما هي العوائد الاقتصادية والاجتماعية التي سوف تحققها الحكومة من إعادة استثمار وتأهيل هذه الشركات بطريقة جدية وعلى نفقتها الخاصة، مقارنة مع العوائد نفسها التي سوف تجنيها من طرحها على الاستثمار الخاص؟ ثم ما هي كلفة هذا التطوير بالنسبة للحكومة عندما تقوم به من موازنتها العامة؟ وهل يوجد دراسة اقتصادية توضح لنا كلف وعوائد البدائل الاقتصادية المتباينة والممكن تطبيقها على شركات الأسمنت من أجل إنقاذها مما هي فيه؟ نطرح هذه الأسئلة في ظل مؤشرات اقتصادية محلية ودولية تنبئ بأهمية وجدوى الاستثمار الحكومي في هذا القطاع الصناعي الحيوي، فمن حيث المنحى العالمي لهذه الصناعة يوجد هناك ميل متزايد وملحوظ لزيادة الطلب على منتجاتها عاماً عام حيث تشهد العديد من الاقتصادات العربية والعالمية توسعا في الطاقات الإنتاجية لهذه الصناعة إما تلبية لطلبها المحلي أو لتلبية الطلب العالمي المنتعش باستمرار. ومن ناحية الظروف المحلية تظهر جدوى الاستثمار الحكومي في هذا القطاع للعديد من الأسباب أهمها أن المادة الأولية لهذه الصناعة متوفرة بكثافة لا نظير لها وتكفي لإقامة عشرات المعامل، كما أن الحكومة تسيطر على هذه الثروات الباطنية ويمكنها جدولة استغلالها زمنيا بالطريقة والشروط التي تراها ذات جدوى أكبر، ثانياً أن هذه الصناعة تشكل بديلا اقتصادياً وإنتاجياً عن الثروات الطبيعية الناضبة مثل النفط والغاز من حيث المردود المادي لخزينة الدولة وخاصة في ظل تنامي الطلب المحلي والعالمي على إنتاجها، وبالتالي تشكل هذه الصناعة في ظروف سورية السياسية والاقتصادية الراهنة والمستقبلية خياراً صناعياً استراتيجياً، وحصنا إنتاجياً متيناً، يوفر نوعا من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والمادي للدولة. فهل أخذت الحكومة السورية تفاعل هذه النقاط مع بعضها قبل أن تتوجه بطرح بعض شركات الأسمنت العامة على الاستثمار الخاص، وخاصة أنها بدأت تقدم كل التسهيلات المطلوبة للقطاع الخاص الذي يرغب بضخ استثمارات جديدة في هذا القطاع وتقدم له دلالا مفرطاً للإسراع في عمليات الاستثمار تلك كأن تقوم المؤسسة العامة للجيولوجيا بدراسة المواقع المؤهلة لإنتاج المادة الأولية، وأن تتعهد الحكومة بتحمل الكلفة كاملة من الطريق العام إلى منطقة إنشاء المعمل لأي معمل سوف ينشأ، وأن تستوفي الدولة رسم المقالع من القطاع الخاص بنسبة الرسم الذي تستوفيه من شركات القطاع العام أي 72 ليرة للطن النهائي الواحد، كما وعدت الحكومة مستثمري الأسمنت بعدم تدخل مؤسسة عمران بالسعر أو بالتسويق محررة بذلك سعر الأسمنت المنتج من القطاع الخاص ومحررة عمليات تسويقه أيضاً، في حين تبقى هذه العمليات المالية والتسويقية مطوقة عنق القطاع العام ومسببة له جزءاً كبيراً من المشاكل فقطاع الأسمنت هو أحد القطاعات الرابحة على مستوى الاقتصاد ككل ويثبت ذلك أن وزارة المالية تفرض 1470 ليرة على كل طن منتج من الشركات كضريبة إنتاج، وتفرض مؤسسة عمران 600 ليرة عن كل طن موزع أيضاً في الوقت الذي لا يترك فيه إلا هامش ربح قليل جداً للشركات زيادة عن كلفة إنتاج الطن الواحد والمقدرة قبل ارتفاع الأسعار ما بين 1500 ليرة إلى 2000 ليرة، فلو سلمت مؤسسة عمران عمليات التوزيع للشركات نفسها، ولو قلصت وزارة المالية ما تفرضه من ضرائب عليها لتم تصحيح وضع شركات القطاع العام وزيادة أرباحها، أما الدلال الكبير للقطاع الخاص فهو تشميل شركاته المستثمرة على أحكام القانون رقم 10 وتعديلاته بحيث تتمتع بمزايا الإعفاءات الضريبية والتسهيلات المادية الأخرى. يضاف إليها أن الحكومة قد رفعت أسعار الأسمنت في الأسواق المحلية لترفع بذلك أرباح القطاع الخاص سلفاً وحتى قبل أن يبدأ العمل، وبالتالي فإن عدم وعي الحكومة لأهمية هذه الصناعة والاستمرار في إهمالها، وعدم تطويرها كما يجب، وهذه التسهيلات المغرية جداً للقطاع الخاص والتي ستؤهله للإنتاج بكفاءة أعلى وبكلفة أقل وخاصة بوجود طاقات إنتاجية كبيرة جداً ومعامل حديثة إلى درجة ما. هذان الأمران سيؤديان إلى تراكم مزيد من أزمات القطاع العام الإنتاجية والتسويقية وسيساهمان في خروجه رويدا رويداً من العملية الإنتاجية والتسويقية، أو في بقائه يعمل في الحدود الدنياً وعند الدرجة التي تبقيه موجوداً فقط.
طرطوس أولاً وعدرا ثانياً...
ونقابات العمال ترد
بدأ العمل بشركة طرطوس لصناعة الأسمنت ومواد البناء في عام 1983، بثلاثة خطوط للإنتاج وهي اليوم من أوائل الشركات المطروحة على الاستثمار الخاص الذي يؤيده مديرها بقوله" نحن مع الاستثمار إذا كان يحقق ريعية اقتصادية معقولة ويزيد الإنتاجية ويؤمن حاجة السوق من الأسمنت" علما أن هذه الشركة قد حققت 241 مليون ليرة أرباحا في عام 2004، و305 مليون ليرة في عام 2005 وتخطط لأرباح قدرها 600 مليون في عام 2006، وإزاء هذا الوضع غير المفهوم لطرح الشركة على الاستثمار وفي رد منه على هذه الخطوة يقول اتحاد عمال محافظة طرطوس بأنه "ليس ضد أن يقوم القطاع الخاص ببناء معامل تلبي حاجات التطور التي لم يستطع القطاع العام بمنشآته القائمة تلبيتها، ولكن أن نعطي القطاع الخاص ما بناه شعبنا وما أصبح يشكل جزء أساسياً من ثروة هذا الوطن فهذا شيء آخر". ويعتبر اتحاد عمال طرطوس أن سعي الجهات الإدارية المباشرة والعليا لطرح هذه الشركات للاستثمار الخاص ما هو إلا طريقة للهروب من مسؤولياتها عن كل الصعوبات والفساد والأخطاء الذي تكوّن في هذه المؤسسات خلال إدارتها لها وهو محاولة من قبلها للهروب من المساءلة والحساب أيضاً، كما أن القطاع الخاص الذي سوف يتسلم ويدير هذه الشركات هو من أسس لثقافة الفساد وعمل من أجل انتشاره، وهو وراء المفسدين في القطاع العام، ويتابع اتحاد عمال طرطوس قائلاً " أليس القطاع الخاص ملوثاً بالفساد ورموزه تمارس الرشاوى وإفساد الضمائر، إننا نرفض وندين هذا الترويج وهذا التسويق التضليلي للقطاع الخاص".
تمثل قضية الخصخصة خطاً أحمراً لدى اتحاد نقابات عمال طرطوس، وهم يقفون ضدها ويتخذون حيالها موقف قوياً وحازماً، فالقطاع العام بالنسبة لهم من ثوابت عملهم الدائمة والتي لا تنازل عنها أبداً مهما كانت الظروف والأسباب، وهم يردون على من يتهمهم بعدم منطقية تمسكهم بالقطاع العام بالقول : هل وقوفنا ضد استثمار معاملنا من القطاع الخاص غير منطقي؟، وهل المنطقي أن نتخلى عن تمسكنا بقطاع عام يدار من الحكومة إدارة تصل به إلى الغايات الوطنية التي وجد من أجلها؟ وهل اتهامنا بأننا غير منطقيين يكمن في ثقتنا بقدرة الدولة على إدارة ممتلكات الشعب؟ نحن نعلم أن هناك جهات لا يريحها تمسكنا بالثوابت بل لا تنظر لوجودنا مجرد نظرات الرضا وما أفصح عنه بعضهم في مجلس الاتحاد العام الأخير من كره لممثلي العمال في اللجان الإدارية في وزارة الصناعة من أنهم لا يستحقون الترفيع أكثر من 5% لضعف إنتاجيتهم لهو أكبر دليل على رأينا هذا. يعكس هذا الرد نزاعاً قويا حيال الموقف من طرح شركات الأسمنت للخصخصة، حيث يوجد جزء من الجهاز الحكومي يحاول اختراق الخطوط الحمراء لثقافة نقابات العمال وليّ ذراعها من خلال تصفية القطاع العام وحضن القطاع الخاص، في الوقت الذي تقاوم فيه النقابات ذلك.
أما بالنسبة لشركة اسمنت عدرا والتي بدأ العمل بخطيها الإنتاجيين الأول والثاني عام 1978 وبخطها الإنتاجي الثالث عام 1983 فهي من الشركات الرابحة والمحققة لخطتها الإنتاجية بنسبة 98% وقد قام الفنيون في الشركة بإعداد دراسة تطويرية للخط الإنتاجي الثالث لتصبح طاقته الإنتاجية 1200 طن باليوم بدلا من 800 طن يومياً، وقد بلغت تكاليف تطوير هذا الخط 700 مليون ليرة سيتم تنفيذها بإشراف شركة اوستر بلان النمساوية، ولا يعرف حتى الآن ما هو مصير هذه المبالغ المنفقة أو الموقع عقود نهائية من أجلها، أو التي تم فتح اعتمادات مستندية لها في حال تم استثمار الشركة من القطاع الخاص وعلى هذه النقطة يعلق الاتحاد العام لنقابات العمال والذي لا يرى مبررا من طرح هذه الشركة على الاستثمار الخاص بالقول " نرجو من قيادتنا النقابية إذا كان قرار الاستثمار لهذه الشركة سينفذ لا محالة ألا تذهب هذه القيمة من المبالغ لصالح المستثمر دون أي ثمن، أو أن يتم اعتبار الخط الثالث بقيمته الإنتاجية الجديدة 1200 طن باليوم بدلاً من قيمته الإنتاجية القديمة 800 طن باليوم".
يعلق أحد النقابيين على موضوع طرح شركات القطاع العام على الاستثمار الخاص بالقول إن القطاع الخاص وعلاقاته بات يشكل مورداً جديداً ومغرياً للفساد بعدما تم سحب عصارة القطاع العام عبر الفساد ذاته، وخاصة عندما بدأت العلاقات السياسية تتداخل بالاقتصادية، وأصبح السياسيين رجال أعمال ورجال أعمال يتدخلون بالسياسة، عند هذه النقطة اختلط الخاص بالعام والسياسي بالاقتصادي، والمصالح الفردية بالمصالح الوطنية وتماهت تماماً خطوط الفصل بينهما.
■ أيهم أسد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.