بعد التوجهات الانفتاحية: أسعار السوق لاتجد من يردعها والمستهلك ضحية سوق الرصيف عدم تداول الفواتير بين الحلقات تجعل الرقابة مستحيلة
أمام أحد بائعي الرصيف في الشارع الممتد من الحجاز إلى الحميدية الذي يبعد بضعة أمتار عن مبنى المحافظة، وقفت «دانا» لتشتري كاميرا تصوير بـ 2000 ل.س بعد مفاوضات شاقة مع البائع الذي كان يصر على 4000 ل.س لتكتشف بعد ساعتين من إحساسها المفعم بالنصر بأن الكاميرا التي اقتنتها غير صالحة أبداً للتصوير وأن عليها العمل مدة ثلاثة عشر يوماً بمعدل ثماني ساعات في اليوم كي تسد ثمن كاميرا لن تستخدمها أبداً!!
حالة «دانا» التي أصبحت عنواناً لمئات الأحداث اليومية التي يقع ضحيتها المواطن السوري في شرائه علبة سردين فاسدة تحت الشمس أو بنطال جينز مضروب الخاصرة أو علبة دخان مزورة من أسواق الرصيف الموازية التي ازدادت باطراد مع دخول القطاع الخاص في الإنتاج والتي غالباً ما يستخدمها التجار لتصريف السلع المنتهية صلاحيتها أو قيد الانتهاء بأسعار تقل كثيراً عن السوق النظامية رغم ضجيج جوقة الإصلاح عن مكافحة الفساد والمفسدين، نجد لها تفسيراً معقولاً أمام موجة الأسعار الكاوية التي تضرب السوق النظامية بعد أن عمدت «حكومة الإصلاح» إلى تحرير الأسعار في إطار إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني على اساس إخضاع السوق لقوانين العرض والطلب وهو الأمر الذي يمكن أن يزيد من الاختناقات الاجتماعية حسب مايراه مراقبون محليون في ظل انعدام أنظمة الضمان الاجتماعي وآليات التصحيح القادرة على إعادة الاعتبار للمواطن، كما تضع حكومة عطري أمام استحقاقاتها في مواجهة أولوية الوضع المعاشي التي أعلتنه الحكومة في بيان تشكيلها خاصة مع إشهارها للأرقام الحقيقية نسبياً عن الفقر في سورية مع تقرير التنمية البشرية الذي أشرف عليه السيد «عبد الله الدردري» مقدراً عدد الذين يقعون تحت خط الفقر بـ30% من إجمالي السكان وهو الرقم الذي لم يخجل منه الدردري عندما قال: «ليس من المعيب أن نستعرض أرقام الفقر بل العيب هو ألا نعرض هذه الأرقام.....» ولكن دون أن يوضح بأن السياسات الانفتاحية الذي كان هو أحد أبطالها هي التي دفعت بخمسة ملايين مواطن ونصف إلى قارعة خط الفقر بينهم مليونا مواطن لايستطيعون تأمين الحاجات الغذائية!!
أسعار السوق
أزمة الأسعار التي تشهدها السوق السورية هذه الأيام والتي طالت قائمة كبيرة من المواد الغذائية والألبسة والسكن والدواء والاتصالات (جدول رقم 1) تبدو مختلفة بعض الشيء عن الارتفاعات الدورية التي تأتي عادة في شهر رمضان نتيجة زيادة الطلب أو بعد زيادة الأجور حين تلجأ الحكومة إلى رفع الأسعار من أجل تمويل الزيادة، ولكننا نجد تفسيرها في قرار الحكومة بتحرير الأسعار تدريجياً مع الانضمام غير المدروس إلى منطقة التجارة الحرة العربية ومايعني ذلك من اشتداد المنافسة والاحتكار، حيث تأثرت السوق المحلية بهذا الاندماج وخاصة بالنسبة لمادة السكر الذي ارتفع سعرها من 20 ل.س إلى 30 ل.س إضافة إلى ارتفاع سعر مادة اللحم بعد أن أصدرت وزارة الاقتصاد مؤخراً قراراً يقضي بتصدير ذكور الأغنام وذكور الماعز الجبلي دون ربط هذا التصدير باستيراد كميات من اللحوم تقدر بضعف الوزن المصدر كما كان سارياً من قبل، مما شجع التجار على تصدير هذه الأغنام نظراً لسمعتها الجيدة في السوق الخليجية والاستفادة من فروقات العملة، الأمر الذي أدى إلى نقص العرض المحلي نتيجة المعدلات العالية للتزايد السكاني حيث قفز سعر الكيلو غرام الواحد من 250 ل.س إلى 450 ل.س أي بنسبة 80% وهو ما يعادل 13% من راتب موظف من الدرجة الرابعة عند بدء التعيين.
قائمة الأسعار شملت أيضاً مايقارب 80% من الأدوية بمعدل 15% وأغلبها أدوية المفاصل والرشح و الأطفال، ومن المرجح أن ترتفع أسعار الأدوية أكثر خلال الفترة المقبلة مع اقتراح وزير الصحة بزيادة اسعار الدواء التي تقل أسعارها عن 50 ل.س بنسبة 20% والتي تشكل أكثر من 52% من حجم سوق الدواء في سورية.
كما ازدادت فواتير الهاتف ا لثابت بنسبة 25% نتيجة «التخفيض» الخادع الذي أجرته مؤسسة الاتصالات إضافة إلى الأسعار غير المعقولة للهاتف الخليوي مع إصرار شركاتها على رفض قرارات وزارة الاتصالات بتخفيض الرسم الشهري إلى 300 ل.س بدلاً من 600 ل.س.
ووفق نشرة الأرقام القياسية التي أصدرها المكتب المركزي للإحصاء فقد بلغ متوسط ارتفاع المواد الغذائية نسبة 12.8 % كما ارتفعت أسعار الوقود والإنارة والمياه بنسبة 20.4% أما أسعار الاحتياجات الشخصية فزادت بنسبة 6.7% ومواد النظافة 7.8% في حين ارتفعت أجور المعالجة وأسعار الأدوية بنسبة 26.8% وأجور التعليم والثقافة ارتفعت بنسبة 43.5% والخدمات السياحية بـ 147% أما أجور النقل والمواصلات فقد بلغ متوسط ارتفاع نسبتها 25.2% والخدمات الشخصية زادت أجورها بنسبة 15.7% ووفق أرقام المكتب المركزي للإحصاء أيضاً يوجد مايزيد عن 60% من العاملين في الدولة تقل رواتبهم عن 7500 ل.س وإذا اعتبرنا أن وسطي عدد أفراد الأسرة السورية خمسة أشخاص، فذلك يعني أن نصيب الفرد الواحد هو بحدود 1500 ل.س أي دولار واحد باليوم وهو مايدل على أن معظم هؤلاء يعيشون تحت خط الفقر.
رأي مديرية الأسعار
السيدة وفاء الغزي مديرة الأسعار في الوزارة قدمت شرحاً لآلية التسعير الجديدة:
«وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية تنتهج حالياً سياسة تحرير الأسعار التي اعتمدتها كتجربة أولية في العام2000 ثم اعتمدت بشكل أصولي في العام 2001 بعد الموافقة من رئاسة مجلس الوزراء ولتاريخه لم ننته من تطبيق هذه السياسة على كافة المواد كوننا نتبع سياسة التدرج في تحرير الأسعار أي تحريرها من هوامش ونسب الأرباح التي كانت محددة سابقاً وإنما تركت للمنافسة وآلية السوق القائمة على العرض والطلب».
هذه السياسة حسب رأي السيدة وفاء «قسمت المواد إلى ثلاث زمر، الأولى هي زمرة السلع التي ينتجها القطاع العام حصرياً، حيث يستمر تدخل الدولة في تحديد أسعارها، أمام الزمرة الثانية فهي زمرة المواد المحررة جزئياً حيث أطلقت حرية المنافسة للحلقة الأولى والثانية من حلقات الإنتاج والاستيراد وتاجر الجملة ويبقى السعر النهائي محدداً بالنسبة للمستهلك من قبل الجهات التي تخول بتسعيرها مثل الأسمدة والأعلاف والألبسة المدرسية، أما الزمرة الثالثة فهي زمرة المواد المحررة كلياً والتي يترك لها حرية التنافس بكامل حلقاتها وفق قانون العرض والطلب وهذه الزمرة تضم أغلب المواد مثل السيارات والبرادات والشاي واللبن والمدافئ والبطاريات، كما شمل التحرير سلع القطاع العام التي يوجد لها نظير في السوق من منتجات القطاع الخاص مثل التلفزيونات «سيرونيكس» حيث تركت لها حرية التسعير بما يتناسب مع أسعار السوق وبما يحقق لها المنافسة والريعية بعد أن كانت تسعر من قبل مديرية الأسعار في وزارة الاقتصاد».
وحسب المديرية: «فإن سياسة تحرير الأسعار قامت على ثلاثة شروط هي وجوب الإعلان عن السعر الذي تقع مسؤوليته على بائع المفرق مع إعطائه الحرية في السعر الذي يحدده إضافة إلى الشرط الثاني الذي يتضمن وجود بطاقة البيان على السلعة التي تتضمن تاريخ الإنتاج وتاريخ انتهاء الصلاحية ومكونات المادة ومصدرها أما الشرط الثالث فهو وجوب تداول الفواتير بين حلقات الوساطة بما يمكن من معرفة مصدر السلعة ومصدر المخالفة».
هنا ينتهي حديث السيدة وفاء الغزي، ولكن واقع السوق لايعترف كثيراً بزمر وجداول مديرية الأسعار حيث يتجاوز سعر السوق في بعض المواد ضعف تسعيرة المديرية بالنسبة للمواد غير المحررة أو التي هي قيد التحرير مثل مادة زيت الزيتون الذي وصل سعرها إلى 200 ل.س في السوق في حين أن سعرها حسب المديرية هي بحدود 170 ل.س أو مادة اللحم البلدي المسعرة حسب المديرية بـ 225 ل.س/كغ في حين أنها تباع بالأسواق بأكثر من 350 ل.س/كغ إضافة إلى قائمة كبيرة نوردها في الجدول رقم (2).
رأي مديرية المستهلك
أزمة ارتفاع الأسعار أيضاً لها مايفسرها لجهة ضعف الرقابة الحكومية على السوق خاصة بعد إصدار القانونين (123 ـ 158) وتعديلات القانونين (47 و 22) من العام 2000 ـ 2001 الذي خفض عقوبة المخالفة التموينية من السجن إلى الغرامة المالية.
الدكتور أنور علي مدير مديرية حماية المستهلك «الرقابة التموينية سابقاً» والذي تولى مهامه منذ أيام قال: «إن المديرية لم تعد لها وصاية على الأسعار، السعر أصبح محرراً، ومانلزم به التاجر أو المستورد هو الإعلان عن السعر وبطاقة المواصفة وتداول الفواتير إضافة إلى قمع الاحتكار، حيث يحق للتاجر أن يضع السعر الذي يرغب به شريطة الإعلان عنه، أما فيما يخص سلع القطاع العام غير المحررة فنحن مستمرون في مراقبتها، ولكن هذا لا يعني بأن الأمور كلها على مايرام، فهناك حالات غش يقوم بها بعض ضعفاء النفوس لانستطيع ضبطها جميعاً لأن الكادر الموجود لدى المديرية لايتجاوز 90 مراقباً في دمشق وهو غير كاف لتغطية السوق الواسعة».
وعما إذا كان هناك حالات احتكار في السوق من التجار قال الدكتور علي: «قمنا بعدد من الجولات والدوريات على المستودعات لكننا لم نلحظ أية حالة احتكار» وعند سؤالنا عن أسباب ارتفاع السكر قال: «الموضوع مرتبط بالبورصة العالمية وارتفاع أسعار السكر عالمياً»، ولكن إذا كانت أسباب ارتفاع سعر السكر هي البورصة العالمية فماذا عن اللحوم ونحن نصدر الأغنام هل هي أيضاً بورصة عالمية؟! ثم ماذا عن الشروط الأخرى التي لاتتقيد بها أغلب المحال التجارية مثل الإعلان عن السعر وبطاقة المواصفة وتداول الفواتير هل هي أيضاً محررة أم أنها لاتجد من يقمعها؟
رأي غرفة التجارة
السيد غسان قلاع نائب رئيس غرفة التجارة بدمشق يرى بأن ارتفاع اسعار اللحوم عائد إلى «قرار وزارة الاقتصاد بتصدير أغنام العواس التي تشكل المادة الرئيسية للحوم وتربية الأغنام حيث اتجه المربون إلى تصدير أغنامهم للخارج وأصبح هناك بالتالي ندرة في العرض بالنسبة للسوق الداخلية مما رفع أسعار السوق المحلية من مادة اللحوم لأن الحكومة لم تعد تلزم المصدرين باستيراد كميات مماثلة من اللحم كما كان سارياً من قبل».
وعن أسباب عدم تداول الفواتير بين التجار قال القلاع: «إن عدم تداول الفواتير بالشكل المطلوب ليس وليد رغبة من التجار أو المنتجين ولكن هناك عناصر كثيرة تحول دون الوصول إلى سعر تكلفة حقيقي نظراً لغياب مستندات التكلفة كما أن هناك أعباء إضافية غير منظورة تقع على التكلفة وهي التي تحول دون تداول الفواتير بالشكل المطلوب».
أما بالنسبة لمادة الزيوت فقد قال القلاع: «إن الزيوت النباتية منها ماهو منتج محلياً ومنها ماهو مستورد حيث جرى تخفيض رسم الإنفاق الاستهلاكي عليها وهو مايجب أن يؤدي إلى تخفيض أسعارها، كما أنه لابد من إجراء دراسة معمقة للأسباب التي حالت دون نزول الأسعار».
ويرى القلاع بأن الأسعار عموماً لم ترتفع ولكن متوسط دخل الفرد في سورية لايتناسب إطلاقاً مع الحاجات اليومية لهذا المواطن ولابد من السعي الدائم لتحسين مستوى الدخل ليتمكن المواطن من سداد قيم حاجاته الضرورية وخاصة في مجال الغذاء والدواء والتعليم».
رأي جمعية حماية المستهلك
المحامي فاروق الرباط رئيس مجلس جمعية حماية المستهلك وهي جمعية غير حكومية تأسست في العام 2004، يرى بأن «أسباب ارتفاع الأسعار لاتزال مبهمة بسبب ضعف عملية الرقابة على تداول الفواتير من المنتج إلى تاجر الجملة إلى بائع المفرق مما يجعل آلية الرقابة غير فعالة رغم أن معاون وزير التموين في العام الماضي أصر على التجار أن يتداولوا الفواتير ولكن ذلك لم يحدث فغرقت الأسواق في فوضى عارمة نتيجة عدم التقيد بالقوانين كما في جانب السياحة فمنذ عام 2003 أصدر وزير السياحة قراراً يلزم أصحاب المطاعم بتقديم ثلاث فواتير تتضمن كل فاتورة المواد التي يستهلكها الزبون ووزن كل مادة وسعرها والتأشير عليها مطبوعاً عليها رقم هاتف الشكاوى وحتى هذه اللحظة لم يتم تداول هذه الفواتير خاصة في المنشآت السياحية ذات النجوم الخمسة وكذلك الأمر بالنسبة لشركات الخليوي التي لاتلتزم بالقرارات والدعوات الموجهة إليها لتخفيض رسم الاشتراك الشهري مع العلم بأن شركات الدول المتقدمة تعطي لزبائنها ساعتين مجانيتين كل أسبوع».
ويرى الرباط بأن الاحتكار يعطل قانون العرض والطلب وأن هناك استحالة في رقابة الأسعار بسبب عدم وجود قانون منظم للعملية سواء كان قانون التنافس أو غير ذلك.
وعن دور الجمعية في حماية المستهلك قال الرباط: «أمام الإمكانيات الحالية فإن دور الجمعية هو توعية المستهلك لأننا لانمتلك تمويلاً يساعدنا في إجراء البحوث اللازمة عن الأغذية وإرسال عينات من المواد إلى المخابر كما في جمعيات دول العالم المتقدم إضافة إلى أن الكادر الموجود هو كادر تطوعي ولايوجد لدينا فروع في المحافظات تساعدنا في عملية الرقابة رغم أننا قدمنا العديد من الطلبات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وحتى الآن لم يتم الرد عليها».
وقال الرباط: حتى يصبح دور الجمعية فاعلاً لابد من إشراكها في مراكز دعم القرار فيما يخص المستهلك إضافة إلى دعمها بالكوادر والإدارات التي تساعدنا في تحقيق حماية المستهلك من مخابر ودراسات وتمويل مادي.
أين اقتصاد السوق الاجتماعي
الحكومة لاتجد نفسها مسؤولة عن الأسعار بعد تحريرها ومؤسسات حماية المستهلك معطلة والتجار لايرون بأن هناك ارتفاعاً في الأسعار وهو مايضع الحكومة أمام استحقاق هام بعد تبني حزب البعث نظام السوق الاجتماعي في مؤتمره الأخير لجهة إمكانية التوفيق بين السوق والجانب الاجتماعي بعد سلسلة التراجعات في الصحة والتعليم والخدمات والأجور وزيادة من هم تحت خط الفقر أم أن الهدف كان تحييد القوى الاجتماعية بغية الانتقال إلى المعركة اللاحقة؟
سؤال لن ننتظر كثيراً للإجابة عليه بعد سياسة التحرير التي تنتهجها حكومات الإصلاح المتعاقبة...
■ كاسترونسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.