ملف إعادة الإعمار: هل كانت (معجزة ألمانية)؟! (1)

ملف إعادة الإعمار: هل كانت (معجزة ألمانية)؟! (1)

لدى الاقتصاد العالمي عنوان عريض للبحث هو (المعجزة الاقتصادية الألمانية) حيث أن النمو الاستتثنائي الذي حققته ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، هو محط أنظار الباحثين في النمو الاقتصادي، وتحديداً النمو بعد الصراعات والحروب، أو تجارب إعادة الإعمار.. فهل كانت معجزة فعلاً؟!

 

قاسيون وبالاستفادة من دراسات اقتصادية* حول النمو الاقتصادي الألماني بعد الحرب العالمية الثانية تقدم خلاصات أولية يمكن أن نستقرئ منها إجابة عن السؤال: هل تستطيع سورية أن تستفيد من التجربة الألمانية الغربية أو تنسخها؟!

عشتار محمود

حققت ألمانيا الغربية في سنوات الخمسينيات، أعلى معدلات نمو وسطية في تاريخها، والأعلى في أوروبا خلال تلك المرحلة التي تعتبر مرحلة انتعاش اقتصادي عامة، بعد الحرب العالمية الثانية، استمرت حتى عام 1973 الذي يعتبره الاقتصاديون نهاية (المرحلة الذهبية) للنمو الاقتصادي الممتدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

8% كان معدل النمو الوسطي للناتج الألماني الغربي خلال الفترة بين 1950-1961، وهذا المعدل المرتفع غير مسبوق بالنسبة للاقتصاد الألماني، حيث كان النمو الوسطي  السنوي في السنوات العشر التي سبقت الحرب 1929-1938: 3,7%. وعاد لينخفض بعد الخمسينيات إلى وسطي نمو سنوي 4,3% حتى عام 1973، لينخفض بعدها إلى وسطي نمو 2% حتى عام 1990، وإعادة توحيد ألمانيا.

فلماذا ارتفع خلال تلك الفترة، ولماذا انخفض بعدها؟!

محرك النمو الألماني

عملياً يعتبر نمو الناتج الصناعي الألماني هو المحرك الأساسي لنمو الناتج، حيث نمت الصناعة بمعدل وسطي سنوي 10%، خلال الخمسينيات، أي أن الناتج الصناعي تضاعف خلال عشر سنوات. وقد انخفض هذا الوسطي في الستينيات إلى النصف تقريباً، لتنمو الصناعة الألمانية بنسبة وسطية 5% خلال الفترة بين 1961-1973، ولينخفض نمو الصناعة الألمانية إلى 1,2% فقط خلال الفترة اللاحقة بين 1973-1990.

وفي معدل النمو الاستثنائي الصناعي المذكور، تكمن (المعجزة الاقتصادية الألمانية)، وعلى الرغم من التباين في القراءات، إلا أن أياً من الدراسات لا تستطيع أن تتجاهل، ما تم توصيفه بأنه (آثار إعادة الإعمار) أو العوامل الاقتصادية المرتبطة بالتركيبة الاقتصادية لما بعد الحرب، والتي يمكن تلخيصها بعنصرين أساسيين: 

الأول: أن الحرب والدمار، تغير فيما يسمى (التركيب العضوي لرأس المال)، وتحقق بالتالي زيادة في معدل الربح، وزيادة في عائدية الاستثمار، ما يجذب رؤوس الأموال نحو توسيع النشاط الاقتصادي، واغتنام (فرصة الربح من الدمار).

أما الثاني: فيكمن في أن الحرب (تغير التحالفات الاقتصادية المؤثرة على النمو)، وتعيد ترتيب علاقات الإنتاج، التي تؤثر على طبيعة النمو وطريقة توزيعه. حيث تحدث تغيرات في طبيعة ملكية الثروة الاجتماعية، ووسائل الإنتاج خلال الحرب، وما ينجم عنها من تغيرات في توازن القوى الاقتصادية في المجتمع، وهو ما سنتحدث عنه لاحقاً، بينما سنفصل قليلاً في العنصر الأول..

تغير تركيبة رأس المال

تدمر مرحلة الحرب، جزءاً هاماً من القاعدة الاقتصادية التقنية والخدمية، كما أنها تؤدي إلى تدهور مستويات المعيشة، وتقلل الطلب على العمل، وبالتالي تخفض الأجور الحقيقية.

وما أن يستعاد النشاط الاقتصادي بعد الحرب، فإن كل شيء يبدأ من مستوى تكاليف منخفض، ويحتاج إلى قوى عاملة بنسبة أكبر وبأجور منخفضة، لتقوم بترميم القاعدة التقنية ورأس المال المادي. وهو ما يرفع من معدلات الربح..

فانخفاض التركيب العضوي لرأس المال، أي زيادة نسبة رأس المال المتغير (القوى العاملة)، إلى نسبة رأس المال الثابت (وسائل الإنتاج)، يؤدي عملياً إلى تخفيض التكاليف، ورفع معدل الربح، وتحفيز مزيد من الاستثمار، وهو ما حدث في ألمانيا.

إلا أن هذه العملية لا تستمر، ولم تستمر في ألمانيا تحديداً لأكثر من عشر سنوات بعد الحرب، حيث أن توسيع الاستثمار، وتطوير القاعدة التقنية المتسارع للصناعة الألمانية، غيّر التركيب العضوي لرأس المال، ورفع نسبة رأس المال الثابت بالقياس إلى المتغير، مخفضاً من معدل الربح، ومقللاً حافز الاستثمار، فبدأ تراجع الاستثمار الصناعي، وتراجع النمو الصناعي بالمقابل، والنمو الألماني عموماً منذ الستينيات.

حيث أن الصناعة الألمانية نمت بنسبة 10% سنوياً خلال الخمسينيات، وكانت تتوسع بنسبة أعلى من توسع الاستثمار الصناعي 8% سنوياً.

ولكن ترافقت هذه الفترة مع تزايد عدد العمال في الصناعة الألمانية بمقدار الثلث بين 1950-1961، مع التوسع الاستثنائي للهجرة إلى ألمانيا الغربية، حيث عاد إلى ألمانيا خلال الفترة بين 1948-1961 أكثر من 6 مليون ألماني من المهجرين والمطرودين قبل الحرب، ودخلت أعداد كبيرة من المهاجرين من أوروبا. 

في العقد التالي في الستينيات، انقلبت الصورة تماماً لتفسر عملياً بداية تراجع النمو الصناعي، فأصبح الاستثمار الصناعي المادي الألماني ينمو بنسبة أعلى من نمو الناتج، حيث تم توسيع القاعدة الصناعية في الستينيات بنسبة 6,6% سنوياً، بينما لم ينم الناتج الصناعي إلا بنسبة 5% سنوياً. أما القوى العاملة في الصناعة الألمانية فلم تتوسع إطلاقاً خلال هذه الفترة، وبلغ معدل نموها صفراً!

أما في المرحلة اللاحقة أي بعد عام 1973 حين انخفض معدل النمو الصناعي إلى 1,2% سنوياً، فإن الاستثمار لم يكن يتوسع إلا بنسبة 1,7% سنوياً، بينما القوى العاملة في الصناعة الألمانية كانت تتراجع سنوياً بمعدل 1,3%، أي خلال خمسة عشر عاماً بعد عام 1973، تخلصت الصناعة الألمانية من أكثر من 20% من القوى العاملة في الصناعة عام 1973!

البنية الصناعية الألمانية كانت تتوسع بمستويات قياسية، حيث في عام 1957 كانت نسبة 40% من القاعدة الصناعية الألمانية عمرها الإنتاجي أقل من 5 سنوات، وفي عام 1948 كانت القاعدة الصناعية الألمانية قد بلغت مستويات عام 1938 أي قبل الحرب، وهي التي توسعت خلال الحرب كماً ونوعاً، ثم طالها تدمير جزئي في الأعوام الأخيرة من الحرب.

 

*المؤسسات والنمو الاقتصادي في ألمانيا الغربية 1945-1990- جامعة لندن- فهم النمو الاقتصادي في ألمانية الغربي خلال الخمسينيات- مدرسة لندن لعلوم الاقتصاد.

 

(ريع الدمار الأوروبي)

 

 (ريع الدمار) يحقق انتعاشة لرأس المال المتعطش إلى الربح من أي ظرف اقتصادي، حتى وإن كان ربحه محصلاً من تدمير القاعدة الإنتاجية والاقتصادية والبشرية. فالحرب تشكل فرصة استثمارية لأنها تخفض التكاليف، وتشكل طلباً حقيقياً مجدداً في ظل الحاجة إلى إعادة إعمار الاقتصاد.. وهذا ما حصل في ألمانيا، ولكن ليس في ألمانيا فقط، بل في أوروبا كلها، وتحديداً في إيطاليا، وفرنسا، وبريطانيا.. الدول التي شهدت أعلى معدلات نموها الصناعي خلال هذه المرحلة. ولكن هذه الدول جميعها أيضاً انخفضت معدلات نموها الصناعي بشكل قياسي، عندما انخفض معدل الربح في الصناعة، وتوقفت رؤوس الأموال منذ 1973 عن توسيع الاستثمار الصناعي، وبدأت القوى العاملة في الصناعة تتراجع بشكل مطلق في الدول الصناعية الأربعة الأكبر في أوروبا، واتجهت رؤوس الأموال نحو قطاعات الخدمات والمال، بعد أن انتهى مفعول ريع الحرب الذي قدمته الحرب العالمية الثانية، ودخلت دول المركز الرأسمالي في أزمة نمو حقيقي عميقة منذ السبعينيات، وهي تتفاقم اليوم..

معجزة النمو الألمانية لم تكن ألمانية.. بل كانت (غنائم حرب) للاقتصاد الرأسمالي، ولكنها صبت في الاقتصاد الألماني، لأسباب لا تتعلق (بحسن تدبير الألمان)، أو بسياستهم الاقتصادية بعد الحرب، بل تتعلق بألمانيا ذاتها، وموقع القوى الاقتصادية الألمانية على خريطة الاقتصاد العالمي، وبدور الأمريكيين المنتصرين بعد الحرب، في رسم السياسة الاقتصادية عبر خطة مارشال، وبوجود الاتحاد السوفييتي والنموذج المنافس.. أي لا يمكن فصل (نموذج الإعمار الألماني) أو (المعجزة) كما تسمى، عن سياق علاقات الإنتاج الدولية والمحلية الألمانية وتوازنات القوى الاقتصادية والسياسية، حيث سنتطرق إلى الدراسات التي تناولت هذا الموضوع في الجزء الثاني من الملف..