لماذا يجب أن نأخذ الموارد من أصحاب الربح؟!
ما هو السؤال الأول الذي يجب أن نقف عنده في بداية مرحلة إعادة الإعمار؟! وهل يجب أن نضع هدف العودة إلى مستويات عام 2010، أم يجب أن نضع هدف تجنب العودة إلى أوضاع عام 2010؟!..
يقول صندوق النقد الدولي بأن سورية ستحتاج إلى 20 عام، لتستطيع أن تعود إلى مستويات عام 2010، عندما سجلت المنظمات الدولية أعلى ناتج سوري بمقدار 60 مليار دولار تقريباً، ويبنى هذا الافتراض على أن معدل النمو في المرحلة اللاحقة سيقارب معدل النمو الوسطي في الفترة السابقة والبالغ 4,5%.. ولكن، من قال لصندوق النقد أننا نريد العودة إلى النموذج السابق أو العتبة السابقة أو أن هذه الـ 60 مليار دولار ناتج كانت حقيقة لكل السوريين؟!
ينطلق أيضاً بعض الباحثين الذين يحاولون تقدير خسائر سورية الاقتصادية، من افتراض أن النمو الاقتصادي كان سيستمر بالتوسع بعد عام 2010، ويبدؤون بتوسيع الخسارات لتصل إلى 200 مليار دولار، على أساس (ما فاتنا من توقف الازدهار الاقتصادي السوري) قبل الحرب!
أي «ازدهار» كنا فيه؟!
ولكن (الازدهار) توقف، وانفجرت الأوضاع، وهذه نتيجة طبيعية، لنمط توزيع ثروة استثنائي، النمو الذي يسجله صندوق النقد بأنه كان 4,5%، والذي سجل زيادة 60 مليار دولار في 2010، يعود منه 15 مليار دولار، لأكثر من 20 مليون سوري من القوى العاملة بأجر وأسرها، بينما 45 مليار دولار، لحوالي 2 مليون من أصحاب الربح وعائلاتهم بمستوياتهم، التي تتباين كثيراً، بين القلة القليلة المهيمنة..
ومن يحصل على ثلاثة أرباع الناتج، أي أصحاب الربح، كانوا يقررون مسار النمو والاستثمار وطبيعة النشاط الاقتصادي اللاحق، والأهم أن جزءاً هاماً من هذه الأرباح، لم يكن يدخل بأية عملية استثمارية داخل البلاد، بل كان ينتقل ليصب في البنوك الخارجية، فأصحاب الربح كانوا يأخذون ثلاثة أرباع الدخل، بينما لا يتم استثمار إلا ما نسبته 20% تقريباً في الاقتصاد الوطني، وفي مجالات محددة تناسب أصحاب الربح، فكانوا يوسعون قطاعات التجارة، التي توسعت بنسبة 12% كوسطي سنوي خلال الفترة بين 2000-2010، ويوسعون قطاعات المال والمصارف بنسبة 14%، بينما لم يكونوا مهتمين كثيراً بتوسيع نشاط الزراعة 0,7%، والصناعة 2,7% حيث الربح أقل.
وهكذا أدى حجم التشوه إلى الانفجار الاجتماعي في عام 2010، والذي يستمر خلال الأزمة ليقل عدد أصحاب الربح، ويزدادون تمركزاً، وهيمنة، وتزداد حصتهم من الدخل، بمقابل توسع فقر أصحاب الأجر. وفي عام 2012 أشارت تقديرات قاسيون إلى أن النسبة وصلت إلى 80% لأصحاب الربح، و20% لأصحاب الأجر، وهي تستمر بالتشوه خلال سنوات الأزمة..
لذلك فإن مصلحة البلاد والسوريين تقتضي تجاوز، بل تجنب الظواهر الاقتصادية المحددة لسمات المرحلة السابقة كلها لعام 2010، لا العودة إليها كنقطة ذروة أو نقطة انطلاق، وأهم سماتها هو التشوه المستمر في توزيع الثروة لمصلحة الأرباح، والتي تجعل النموذج الاقتصادي، والسياسات محابية للأغنياء.
هل تتوافق
مصالح الربح مع الضرورات؟!
إن تغيير نمط توزيع الثروة، لزيادة حصة الأجور، وتقليص حصة الأرباح هو نقطة الانطلاق لأي نموذج اقتصادي قادم بعد الحرب، بل يمكن القول أن الضرورة قد تقتضي أن يضع الاقتصاد السوري، حصة الأرباح، كآخر نقطة في ترتيب الأولويات..
قد يقول قائل: هل يعقل استثمار دون أرباح؟! بالطبع لا، ولكن الأرباح ما هي إلا عوائد العمليات الاستثمارية، والدخل الاقتصادي الناجم عنها، وهذه العوائد ينبغي زيادتها قدر الإمكان، ولكن ينبغي تحديد من سيحصل عليها، وكيف ستوظف؟!
فهل يعقل أن تبقى أكثر من 80% من الموارد حبيسة مصالح ورغبات أصحاب الربح وقراراتهم الاستثمارية؟! وهل يتفق هؤلاء مع ضرورات اقتصادية واجتماعية في المرحلة القادمة مثل: ضرورة الاستثمار في توسيع الزراعة والصناعة، وترميم قطاع الطاقة وتأهيله، مع كل ما يقتضيه هذا من دعم ضروري.. أم سيأخذونا إلى خيارات استثمار الموارد في عمليات الاستيراد، وفي المشاريع العقارية الضخمة والمضاربات العقارية، وفي التعهدات للقيام بالخدمات العامة، مقابل حصص ربح عالية من النفقات؟!
وهل ستتفق مصالح هؤلاء، مع وجود ضرورات في تخصيص جزء كبير من الموارد لعمليات الإنفاق الاجتماعي، لمواجهة تحدي الفقر المتمثل بعدم القدرة على الحصول على الغذاء وماء الشرب والمأوى في كثير من المناطق، ولعدد كبير من السوريين، والنسبة التي يجب أن نخصصها لزيادة قدرة الأجور على الطلب والاستهلاك، كي تجد عمليات الإنتاج المحلي الطلب المقابل لها، وكي ينتقل أصحاب الأجر إلى حدود تلبية الحد الأدنى من حاجات المعيشة؟! وحجم الإنفاق الإضافي لتخفيض مستوى الأسعار، والضروري لزيادة قدرة وكفاءة التعليم العام، ومؤسسات الصحة المجانية، بما يقتضيه الوضع في بلد ضمن كارثة إنسانية.
هل يمكن أن يخصص أصحاب الربح، من يملكون 80% من الموارد، وبكامل رضاهم، الأموال التي يستولون عليها ليقوموا بعمليات الإنفاق الاجتماعي والاستثمار الاقتصادي، قليل الربحية؟! بالطبع لن يفعلوا..
السوريون في المرحلة القادمة أمام استحقاق أساسي وخيارين لا ثالث لهما، الأول أن يتخلوا عن المهام الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتقوم البلاد من كارثتها الإنسانية، ويتركوا لأصحاب الربح أن يقرروا النموذج الاقتصادي المطلوب كما فعلوا قبل الأزمة وخلالها.. والثاني: أن يحصلوا على الموارد من هؤلاء وينفقوها وفق ضرورات إنقاذ البلاد، وضمان عدم دخولها الأزمة ثانية.
أما الدولة ودورها وسياساتها الاقتصادية وإدارتها للأمور، فهو أمر يتحدد وفق ميزان القوى الاقتصادي- الاجتماعي في سورية بعد الحرب. فإما أن تكون دولة محابية للأغنياء كما هي الآن، وإما أن يستطيع أصحاب الأجور والدخل الصغير أن يفرضوا مصلحتهم الاقتصادية المتطابقة مع مصلحة البلاد، مع كل ما يقتضيه هذا الفرض من تنظيم وعمل سياسي شعبي واضح الأهداف.