الإصلاح الاقتصادي... أو 340 ألف جامعي على قارعة الطريق
تغص الجامعات والمعاهد بآلاف الطلاب المتزاحمين على مقاعد الدراسة، وعلى الرغم من عدم توفر هذه المقاعد على سوية علمية جيدة، نجد في كل عام أن هناك وافدين جدداً وآمالاً جديدة، هم شباب مندفع ومتحمس لمرحلة جديدة من حياته، وبعد التخرج تنوس آمال المرحلة وتتضاءل، وتخبو الطموحات وتكاد تختفي عندما تفرغ محفظة الواقع محتوياتها في وجوههم، في الجامعات والمعاهد لهم مكان أما في سوق العمل والاقتصاد فمكانهم قارعة الطريق أو تحت رحمة رأس المال الخاص وشروطه، أو بيروقراطية القطاع العام الخانقة حياتهم، وطابور المنتظرين طويل جداً ويتزايد باستمرار، وقامات أبناء العشرين تتقوس أمام الحاجة، وتتذلل في طلب الوظائف، وإذا كانت أبنية الجامعات الحجرية قد استوعبتهم بطريقة ما فإن الاقتصاد لم يعد قادراً على استيعابهم أبداً حيث كعكة الاقتصاد تصغر والملتهمون لقسمها الأكبر عدد قليل جداً، وما يبقى منها فتات لا يكفي بقية المجتمع، إنها الوليمة السورية الجديدة بدعوة من "أولياء النعمة الجدد".
هل يتوقف الناس عن التعليم؟ وهل باستطاعة أحد أن يحرمهم ذلك الحق؟ ومن سيعوض لهؤلاء الطلاب المليارات التي يدفعونها سنوياً من جيوب غالبيتها مثقوبة يرشح منها الفقر والحرمان؟ وهل تنتهي قصة التعليم في سورية نهاية حزينة؟ قد تكون هذه الأسئلة أسئلة محرجة لكنها ضرورية جداً في ظل هذا الدفق التعليمي العارم الذي بدأ يجتاح سورية منذ سنوات، وفي ظل ترديد شعارات الإصلاح المؤجل، وفي ظل اختفاء الإجابات الرسمية على سؤال: ماذا تريد الحكومة السورية من سياستها التعليمية؟ وإلى أين تريد أن تصل بالمجتمع؟
الهجر العلمي تأسيس لمشكلة
الهجر العلمي ببساطة هو تخلي الطلاب عن متابعة الدراسة في الاختصاصات العلمية والتوجه نحو الاختصاصات الأدبية وتبدأ هذه الظاهرة بشكل أساسي في المرحلة الثانوية عندما يميل الطلاب لدراسة الفرع الأدبي دون العلمي، وقد بدأت سورية تشهد هذه الظاهرة مؤخراً والتي يعتبرها البعض على أنها مؤشر خطير إذا ما ربطت مع التغيرات العلمية والتكنولوجية العالمية التي تحدث حولنا، وإذا ما ربطت أيضاً مع تجارب دول أخرى لم تتطور إلا بوجود تخصصات علمية رفيعة جداً وبأعداد كبيرة من الطلاب المختصين بها.
في سورية ارتفعت نسبة هجر الاختصاصات العلمية مؤخراً بشكل ملحوظ ففي عام 2000 كان عدد الطلاب المسجلين بالفروع الأدبية مساوياً تقريباً لعدد الطلاب لمسجلين في الفروع العملية في الثانوية العامة وفي عام 2005 أصبح عدد طلاب الاختصاصات العلمية الثلث في حين أن الثلثين الباقين كانوا من طلاب الفرع الأدبي، وهذا الانقلاب السريع والمفاجئ خلال خمس سنوات يعني أن هناك مشكلة حقيقية ستواجه الاقتصاد السوري على المدى الطويل تتمثل بكل بساطة في انخفاض عدد الخريجين المختصين علمياً من مهندسين وفنيين والقادرين على إدارة أية عملية تطويرية صناعية أو خدمية أو تجارية حديثة إذا ما قرر الاقتصاد النهوض ذات يوم وإحداث طفرة اقتصادية ما، ومن جهة أخرى فإن هذا الهجر للاختصاصات العلمية يتناقض تماماَ مع روح العصر التي تهيمن عليها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات واليد العاملة الخبيرة والمؤهلة بشكل عالٍ جداً، وهنا نكتشف تناقض الخطاب الاقتصادي الرسمي السوري مع حقائق الواقع، فمن الناحية النظرية الإعلامية يروج ذلك الخطاب لصورة سورية المستقبلية المتطورة والواعدة، وسورية الصناعية المنتجة لسلع ذات محتوى تكنولوجي عالي، وسورية الحكومة الالكترونية والأتمتة الشاملة، في حين أن الواقع يؤشر على أن الناس ما عادوا راغبين في دراسة العلوم العلمية التي هي ركيزة ذلك التطور المجتمعي، بل بدأت تفضل الاختصاصات الأدبية الأكثر سهولة والأكثر مرونة في التعامل معها. وربما يكون لدى هؤلاء الطلاب مبرراتهم الموضوعية في التخلي عن الاختصاصات العلمية الناتجة بالدرجة الأولى عن عدم وجود قطاعات اقتصادية تستوعب تلك الاختصاصات وتتفاعل معها، وبأن دارسي هذه الاختصاصات تحولوا إلى موظفين إداريين من الفئة الأولى مثل غيرهم من طلاب الاختصاصات، يضاف إلى ذلك أن القطاع الخاص حتى الآن لم يتطور اقتصادياً لدرجة تسمح له باستيعاب بعد تلك الاختصاصات العلمية لاعتماده بالدرجة الأولى على أنشطة طفيلية سريعة الربح فقط، وبالتالي فالطريق شبه مسدود أمام تلك الاختصاصات في الاقتصاد، يضاف إليها أن العديد من الاختصاصات الجامعية العلمية الجديدة هي مجرد أسماء دون أي محتوى عملي جديد، وأن فرص العمل المرتبطة بها محدودة جداً في الاقتصاد وبالتالي لا جدوى من دراستها، وأنها جاءت متأخرة جداً عن الحراك الاقتصادي والمثال الحي على ذلك هو هندسة الغزل والنسيج ففي المرحلة التي أصبحت فيها هذه الصناعة بالقطاعين العام والخاص مشبعة باليد العاملة بل وتعاني عمالة فائضة وفي الوقت الذي أصبحت فيه هذه الصناعة مهددة بشكل كبير من معظم دول العالم تم افتتاح تخصص علمي لها لدعمها علمياً في حين أن منتجات الهند والصين ودول جنوب شرق آسيا اكتسحت الأسواق الدولية لجودتها وانخفاض أسعارها، فما هو منطق هذه الرهانات العملية الآن على مثل هذا الاختصاص الأكاديمي؟ وهل هو مجرد تنويع إحصائي على الاختصاصات الموجودة حالياً؟
إن قضية هجر الاختصاصات العملية مرتبطة بحس الناس الاجتماعي والفطري بفشل وإخفاق عملية التنمية وبعدم رغبتهم بالمجازفة في تلك التخصصات، يضاف إليها أن العديد من التخصصات العلمية الحديثة غير موجودة، وإن وجدت أكاديمياً فلا مكان لحاملي شهاداتها في سوق العمل الذي لم يستوعب التخصصات التقليدية أساساً، الأمر الذي يعزز موقف الناس بالتحول نحو التخصصات الأدبية بشكل أكبر.
أفواج التعليم العالي إلى أين؟
أرقام مذهلة تلك التي أعلنت مؤخراً عن عدد طلاب التعليم العالي في سورية بأنواعه المختلفة من عام ومفتوح وخاص وموازٍ وافتراضي، فقد وصل عدد الطلاب المسجلين في التعليم المفتوح إلى 90 ألف طالب حتى بداية عام 2006 ووصل عدد طلاب التعليم الخاص إلى 7 آلاف طالب والتعليم الافتراضي إلى ما يقارب 1200 طالب، في حين أن التعليم العالي العام بقي محتفظاً بـ245 ألف طالب، يضاف إليهم 55 ألف طالب من طلاب المعاهد المتوسطة التابعة لوزارة التعليم العالي وللوزارات الأخرى.
وبالرغم أن عمر كل أنظمة الدراسة الجديدة لم يتجاوز السنوات الأربع إلا أنها استحوذت على 29% من عدد الطلاب في إجمالي أنواع التعليم العالي السابقة، بالتالي سنكون بعد عدة أعوام أمام تسارع ونمو كبيرين في مخرجات العملية التعليمية التي بدأت تقذف ما في جوفها من طلاب إلى أسواق العمل المكتظة أصلاً بخريجين سابقين لا عمل لهم، وهنا يبرز التناقض الأساسي وتبدأ المشكلة بالظهور إذا ما ربطنا الأعداد الهائلة من خريجي التعليم العالي مع وضع الاقتصاد الحالي والمستقبلي، فالاقتصاد الذي بدأ يعاني منذ سنوات من تدهور واضح ومن درجة كبيرة من التفكك والتخلف وغير قادر على تشغيل المتعلمين الحاليين فيه أو تفعيل تشغيلهم كيف له أن يشغل الآلاف الجدد من القادمين إليه الآن؟ والاقتصاد الذي بدأ يتحول إلى اقتصاد سوق رويدا رويدا ً كيف سيوائم بين سياساته التعليمية الكمية تلك وبين طاقاته الإنتاجية الضعيفة ولهزيلة وبين اقتصاد السوق الباحث دوماً عن التأهيل العالي والكفاءة والخبرة؟ والاقتصاد الذي بدأ يفسح الساحة للقطاع الخاص بالسيطرة والتحكم بموارده كيف سيجعله يمتص جزءاً من أعداد المتعلمين تلك؟
القطاع العام متهرئ وممتلئ والقطاع الخاص طفيلي ومحدود الاستيعاب، وعجلة الإصلاح مثقوبة ومركونة منذ سنين على رصيف الشعارات، فأين سيذهب أولئك الخريجيون الجدد الذين دفعوا لكي يتعلموا؟ وفق نموذج التعليم الحالي الذي يميل إلى الأساليب الكمية لا النوعية والذي بدأ ينظر للتعليم على أنه مورد اقتصادي جديد من موارد الدولة يغذيها بمليارات الليرات سنوياً، سوف يؤسس لحالة من التفكك الاجتماعي على نار هادئة، حيث ستبدأ الأعداد الهائلة من الخريجين الجدد من أنظمة التعليم الحديثة بالمطالبة يوماً ما بحقوقهم المادية والمعنوية التي ضحوا زمنياً ومالياً من أجلها، أليس الاقتصاد هو من سحبها منهم ذات يوم؟ أليس من واجبه إعادتها لهم؟ وفي حال عدم استجابة الاقتصاد لهم وهو ما يتوقع حدوثه سيتحول هؤلاء إلى فتائل إشعال لأزمات اجتماعية وسياسية ناتجة عن عمليات التهميش الاقتصادي الذي يعانون منه بالدرجة الأولى، فهم فئة متعلمة ولديها أفكارها المتطورة نسبياً عن الحقوق الاجتماعية والعدالة والمساواة والحرية وستجد نفسها أمام خيارين إما أن يعوض لها الاقتصاد ما سحبه منها من مبالغ نقدية كبيرة إزاء تعليمها بخلقه فرص عمل لها، وإما ستبدأ هي ذاتها بالضغط الاجتماعي والسياسي بأشكال عدة من أجل إجبار الاقتصاد على خلق تلك الفرص، وقد تأخذ حالات الضغط تلك أشكال متطرفة نوعاً ما لا يمكن التنبؤ بنتائجها النهائية، أو بالطرق التي ستسلكها، وعندها يختل التوازن الاجتماعي بفعل الضغوط التي يولدها خريجو النظام التعليمي على النظام الاقتصادي بدافع من حاجتهم وإثبات ذاتهم، وبهذا المعنى يظهر التعليم كحالة اجتماعية سلبية ناتجة عن آليات الحرمان الاجتماعي التي يولدها الاقتصاد بحق المتعلمين، وبالتالي فالتعليم الذي من المفترض أن يكون أداة للتطور يصبح هو ذاته أداة لكبح التطور بفعل الفوضى وعدم التخطيط.
الإصلاح ثم الإصلاح
إن تأجيل الإصلاح الاقتصادي والسياسي في سورية اليوم هو حكم بالسجن المؤبد على المجتمع وعلى أفراده المتعلمين، وفي ظل هذا التأجيل الغير مبرر يبقى المتعلمين رهائن للوضع الاقتصادي الحالي، وإن حل التناقض بين مخرجات التعليم العالي وبين سوق العمل لا يمكن دون تطوير البنية الإنتاجية وإصلاحها كي تستوعب تلك الأعداد من الخريجين، ودون إعادة توزيع الدخل الوطني بين أفراد المجتمع ووقف عمليات الفساد الجارية. حيث يضمن توسيع الاقتصاد وتطوير امتصاص عدد كبير من خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة ويدخلهم في العملية الإنتاجية مرة أخرى ويعوض لهم تكاليفهم الاجتماعية، ويؤمن لهم نوعاً من الاستقرار المادي والنفسي، ويخفف بالتالي من عبء الضغوط الاجتماعية والسياسية الحالية والمستقبلية. وبالتالي فإن الإصلاح الشامل بات ضرورة موضوعية وعملية ملحة جداً لتفادي التناقض بين السياسات التعليمية والسياسات الاقتصادية ولتحقيق المواءمة بينهما، فاقتصاد السوق الذي تنادي الحكومة به علناً لا يعني أن تُبتلع نقود الناس لتعليمهم وأن يقذف بهم في الشوارع بعدها، كما أنه لا يعني مصادرة لحقوق الناس التعليمية كما أنه لا يمكن أن يشتغل بمقولة " دبر راسك".