كيف دعمت الليبرالية تدهور الناتج؟!
كيف نستطيع أن نستنتج بأن النمور ليس هدفاً موضوعاً في السياسة الاقتصادية السورية خلال الحرب؟! إن قليلاً من التفصيل في حجم الاستثمار وبعض السياسات هو المفتاح الرئيسي لاكتشاف النوايا..
يقول المنطق، وتجربة الدول خلال الحروب، أن ظروف الأزمات الاقتصادية تقتضي أن تتم تعبئة الموارد، ليتم استخدامها في تعويض التناقض الذي يحصل موضوعياً في ظروف الحرب، بين الخسائر المتزايدة من جهة، والحاجات المتزايدة من جهة أخرى.. ولا يمكن أن تتم هذه العملية إلا بإدارة فعالة لما تبقى من الموارد، ودفعها باتجاه محدد: زيادة الاستثمار في المواضع القابلة للاستمرار بعمليات الإنتاج، مع ما يتطلبه هذا من تسخير الدعم المطلوب لها. وجهاز الدولة تحديداً هو من يستطيع القيام بهذه المهمة وتحديد سمت استخدام الموارد، فيتوسع حجمه ودوره خلال الحروب، إلا في حالة تفككه وانهياره! أي أن قدرة جهاز الدولة على تعبئة الموارد، وتوزيعها على الاستثمار، وعلى الإنفاق الجاري بما يخدم عمليات استمرار نمو الإنتاج، هي مفتاح رئيسي في التحكم بحجم التراجع والانكماش.
تعبئة ربح الناتج وترك ثلاثة أرباعه
وبالنظر إلى الأرقام، والسياسات في سورية خلال سنوات الأزمة يتضح أن ما سبق كله لم يكن في وارد السياسة الاقتصادية. فحجم موارد المال العام المعبأة والمخصصة للإنفاق سنوياً، والمعبر عنه في الموازنات الحكومية السنوية، كان بتراجع مستمر بالقيمة الحقيقية، وهو في عام 2016 لا يتعدى 27% من حجم ناتج 2015: (موازنة 2016 تبلغ 1980 مليار ليرة، أي حوالي 6,4 مليار دولار تقريباً بسعر صرف 310 ليرة للدولار نهاية 2015، بينما حجم الناتج مقدر وفق أقصى رقم للتراجع بحوالي 23 مليار دولار، أي ما يقارب 40% من الناتج في عام 2010 البالغ 60 مليار دولار تقريباً).
أي عملياً لم يخصص سوى ربع الناتج تقريباً، أو ربع القيمة المضافة المحققة في عام 2015 من قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات الحكومية والتجارة وغيرها، للإنفاق الحكومي، وبقي ثلاثة أرباع الناتج يوزع وفق قوانين السوق بين الأرباح والأجور في النشاط الاقتصادي الخاص، أو لدى الحكومة ولم تدخله في الموازنة والإنفاق!.
إذاً، أولاً: حجم الموارد المعبئة ليس على حجم الظرف، ومن الممكن أن يتم تعبئة موارد أعلى من الأرباع الثلاثة المتبقية من الناتج، والتي توزعها السوق بشكل غير عادل على الأرباح الكبيرة بالدرجة الأولى.
فكيف تنفق الحكومة الربع الذي تحصل عليه؟! هل تنفقه بما يخدم مواجهة الانكماش؟!
0,0007%
نسبة الاستثمار الصناعي من الناتج!
الجزء الأساسي من الإنفاق الحكومي يذهب للنفقات الجارية، التي تتوزع على الشؤون الإدارية والخدمير، وقد كان بند الدعم الاجتماعي الوارد ضمن النفقات الجارية، يساهم عملياً في دعم عمليات الاستثمار أي توسيع الإنتاج، ولكن هذا الدعم لم يتبقّ منه سوى مبلغ 170 مليار ليرة للدعم التمويني، وهو أقل من نصف مبلغ الدعم التمويني في العام السابق، وجزء هام منه لم ينفق مع عدم حصول السوريين على السكر والأرز مدعوماً. أما دعم المحروقات فقد تخلصت الحكومة من عبئه في هذا العام، بعد أن أصبح القطاع رابحاً، حتى أنها لم تضعه في بنود الموازنة، وقررت أنه سيوضع في حساب أرباح وخسائر، أي أنها وفرت مبلغاً كان يقارب 700 مليار ليرة في عام 2015 بحسب المعلن في الموازنة طبعاً!
أما الأهم في طريق تخصيص الموارد حكومياً، والأكثر ارتباطاً بالنمو هو النفقات الاستثمارية، والتي خصص لها حوالي 510 مليار ليرة أي حوالي: 1,6 مليار دولار بسعر صرف نهاية 2015 قرابة 310 ليرة مقابل الدولار، أي نسبة 7% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضئيلة جداً لا تكفي لتعويض اهتلاك رأس المال المستخدم، ولا تشكل شيئاً مقابل التدمير المباشر سنوياً في رأس المال. أي أن وضع النسبة عملياً، هو قرار بعدم توسيع النمو الاقتصادي للمنشآت الاقتصادية العامة.
ولكننا هنا نفترض أن الحكومة تقوم باستثمار هذه المبالغ، ونعتبر أن ما يعلن في الموازنة هو ما ينفق، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك، فرغم أن الحكومة تخفي نتائج أعمالها، فالمعلومات تشير إلى أن الإنفاق الاستثماري الحكومي لا يتجاوز عشرات المليارات في أعوام 2014، و 2015، ويقارب 50 مليار في عام 2015، أي نسبة 0.6% من ناتج عام 2014، وبهذه الحالة فمن الطبيعي أن لا يتوسع الناتج المحلي الحكومي، أو الإيرادات الحكومية العامة من منشآتها في عام 2015!
والمزيد من التحديد فإن الخطة الاستثمارية الموجهة للصناعة مباشرة، لا تتعدى 7,3 مليار ليرة معلنة في عام 2016 أي حوالي 23 مليون دولار فقط بأسعار بداية العام، ولا نعلم إن كانت قد نفذت بالفعل أم لم تنفذ!، أما للعام القادم فإن المؤسسات الصناعية العامة، وبعد الكثير من الوعود ستحصل على 8,8 مليار ليرة سورية، لخطتها الحكومية لـ 2017، أي بعد تراجع قيمة الليرة، فإن هذا المبلغ لا يتجاوز 17 مليون دولار، وهو يشكل نسبة 0,0007% من الناتج، أي لا يشكل شيئاً.
ومنه نستطيع القول أنه لدى الحكومة قرار بألا تقوم المنشآت الصناعية العامة بتوسيع عمليات استثمارها، وهي تمنع عنها أموالها التي تنتجها، وتحديداً الشركات المنتجة والمستمرة منها!.
فهل تعوّ الحكومة على أن يقوم القطاع الخاص بالاستثمار؟!
ممنوع الإقراض والدعم
أيضاً فيما يخص استثمار القطاع الخاص، فإن من يحاول أن يقوم بعمليات الاستثمار، هم بالدرجة الأولى المزارعون السوريون، وأصحاب الحرف والورش والمعامل، ممن لا يملكون خيارات واسعة في تأمين دخلهم! وهؤلاء يمكن أنْ نعتبر أنَّ مسألة عدم رغبة السياسة الاقتصادية بتوسيع قدراتهم الإنتاجية واضحة من محورين أساسيين، الأول: هو منع الإقراض المستمر منذ عام 2012، رغم إعلان المصارف العامة تحديداً ارتفاع حصتها من السيولة إلى النسب التي تتيح لها أن تقرص أموالها، وكنا قد ذكرنا سابقاً أن ودائع المصارف العامة والخاصة والتي زادت عن 1600 مليار ليرة، تستطيع أن تحقق نسبة نمو 5% في الصناعة السورية، إذا ما قامت بعمليات إقراض إنتاجية بمقدار 125 مليار ليرة سورية خلال عام، إلا أن هذا لم يتم. أما السياسة الثانية التي تدل على أن السياسة الاقتصادية لا تريد أن توسع قدرات المنتجين في القطاع الخاص على الإنتاج، فهي عملياً رفع الدعم، حيث أن الرفع المتتالي لأسعار المازوت والكهرباء، بغية تخفيض الإنفاق، و(توفير المال العام)، هو قرار واضح، بتوفير هذه المبالغ حتى لو كانت النتيجة خسارة الناتج والدخل السوري، لقيم مضافة جديدة، كانت ستنتج عن استمرار المنتجين بالإنتاج، أو بتوسيعه في حال بقيت تكاليفهم الرئيسية مدعومة، أي تكاليف الطاقة. فالسياسة الاقتصادية اختارت الربح من قطاع المحروقات، وهو الذي أصبح يقدر خلال نصف عام بحوالي 160 مليار ليرة، مقابل خسارة مستمرة في الإنتاج وقدرات المنتجين، وبالتالي في النمو الاقتصادي.
السياسة الاقتصادية الليبرالية خلال الأزمة، دعمت انكماس الناتج، ومنعت النمو الاقتصادي، فأولاً: قلصت الموارد المعبئة في الموازنات الحكومية إلى ربع الناتج، وتركت ثلاثة أرباع الناتج لتوزعه السوق وفق قوانينها بين العرض والطلب، وثانياً: لم تقدم للمنشآت الصناعية العامة سوى نسبة 0,0007% من الناتج، أي أنها لا تريد لها أن تتوسع في إنتاجها. وثالثاً: مارست سياستين تعيقان قدرة منتجي القطاع الخاص على الإنتاج، وتحديداً المزارعين وأصحاب الور الصناعية والمعامل، فمنعت عنهم الإقراض، ومنعت عنهم الدعم بعد أن رفعت تكاليف الإنتاج عبر المازوت والكهرباء وغيرها..
27%
تشكل الموازنة الحكومية لعام 2016 مقدار يعادل 6,4 مليار دولار في بداية العام، وهي لا تتجاوز نسبة 27% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي السوري المقدر في عام 2015 بحوالي 23 مليار دولار، وفق أكثر التقديرات تشاؤماً.
أي أن نسبة 73% من الناتج السوري، لا يتم تعبئتها عبر جهاز الدولة، بل متروكة لتتوزع وفق قوانين السوق بين الأرباح والأجور! وهذا يتناقض مع ضرورة تعبئة الموارد في ظروف الحرب.
صفر%
خصصت الحكومة للإنفاق الاستثماري على الصناعة العامة، مبلغاً لا يزيد عن 8,8 مليار ليرة للعام القادم، بينما في هذا العام المبلغ المعلن 7,3 مليار ليرة، أما المنفذ فعلياً غير معلن. وتخصيص مبلغ بهذه الضآلة يعني إعلان عدم الرغبة بتوسيع المنشآت الصناعية العامة لاستثمارها، أو حتى المحافظة عليه وترميمه..
وعملياً ما تم تخصيصه للاستثمار في الصناعة العامة في عام 2016 هو نسبة 0,0007% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر لسورية.
44%
تشير التقديرات إلى أن خسارة سورية من الناتج المحلي الإجمالي خلال خمس سنوات من الأزمة بلغت قرابة 163 مليار دولار، وقد يقول قائل بأن خسارات النفط والعقوبات والتدمير هي العامل المحدد، إلا أن التقديرات تقول بأن خسارة النفط تقارب 5 مليار دولار خلال خمس سنوات، والخسارة من العقوبات 20 مليار دولار، أما الخسارة من التدمير المباشر لرأس المال هي 67 مليار دولار، ليتبقى حوالي 72 مليار دولار خسارة ناتج لا نستطيع أن ننسبها مباشرة للتدمير، أو للعقوبات أو لخسارة إيرادات النفط، وهي خسائر كان من الممكن تجنب الجزء الأكبر منها فيما لم تطبق سياسة اقتصادية ليبرالية. أي نستطيع القول أن قرابة 44% من خسائر الناتج، كان من الممكن تفاديها، فيما لو لم تطبق سياسة التقشف في الاستثمار، وإعاقته.