الفساد.. من جديد!
والجديد.. هو الاستطلاع الذي نشرته جريدة الثورة بتاريخ 20/2/2008 حول الفساد، وقد كتب كثيراً حول الموضوع، وفي وقت مبكر منذ بداية (التلويح) بسياسة اقتصادية (انفتاحية) تسعى لإشراك القطاع الخاص بعملية التنمية، وقد رسمت هذه السياسة في بداية السبعينات بما أطلق عليه «التعددية الاقتصادية».
وفي معرض إقامة المشاريع التنموية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، ظهرت فئة من رجال الأعمال بتحالف وثيق مع رموز البيروقراطية الإدارية والسياسية، فقامت هذه الفئة بالوساطة بين مؤسسات القطاع العام والشركات الأجنبية لإقامة تلك المشاريع فكانت بداية ظهور (الفساد الكبير) الذي كان يحظى بغطاء ونفوذ من مراكز هامة في السلطة الحكومية. وعندما أدركت القيادة السياسية ضخامة الأثر الاقتصادي والاجتماعي لما حصل، وحاولت إيقافه أو الحد منه بتشكيل «لجنة الكسب غير المشروع» وقفت قوى هائلة ضد عملية المحاسبة، فانكفأت مما كان له أبلغ الأثر في إطلاق وحش (الفساد الصغير) من عقاله، وساعد على تسهيل أمر هذا الوحش الإجراءات الحكومية وخاصة في معرض توفير المواد والسلع في الأسواق، وفي تجميد الأجور وتراجع الاستثمار العام. لكن الانعطاف الحاد في انتشار الفساد (بنوعيه الكبير والصغير) كان مع إطلاق سياسات الانفتاح الاقتصادي والاقتصاد الحر. الذي (حرر) البعض من بقايا (القيم) والسلوكيات فانخرطوا في معاملات الفساد الكبير والصغير دونما رادع وعلى المكشوف.
الاستطلاع الذي نشرته الثورة، معروفة نتائجه سلفاً، وهو معروف ليس لدى (الأغلبية الساحقة) من السوريين فقط، بل من جميع السوريين، وغير السوريين (للأسف) الذين يزورون سورية، لسياحة أو لنشاط ثقافي أو اقتصادي.
لكن.. التدقيق في النتائج يعطينا مؤشرات ذات دلالة، فالقضاء يحتل المرتبة الأولى من بين المؤسسات الرسمية، ويليه في ذلك البلديات ثم الشرطة. وهذا يعني أن الفساد ينتشر في المؤسسات الرسمية التي لها علاقة مباشرة بمعاملات المواطنين اليومية، مما يشكل ظاهرة عامة، وخطورة هذه الظاهرة اتساع رقعتها لتشمل جميع فئات المجتمع، فمن من المواطنين ليس له علاقة تكاد أن تكون يومية بدوائر الدولة؟ وإذا ما تسرب الفساد إلى القضاء، فإن ذلك يعني فقدان الثقة بعدالة القضاء، والشك بعملية المقاضاة، وبالتالي فإن القضاء الذي وجد لإيصال أصحاب الحقوق إلى حقوقهم، فَقَدَ (هذا القضاء) مصداقيته، وأصبح مَّنْ يملك المال اللازم (مال الرشوة) والجرأة والوقاحة هو من يستطيع أن يحصل على الحكم القضائي. فتغيب العدالة التي هي من أسس قيام المجتمعات وضمان تماسكها.
لن نسترسل في بيان الآثار المدمرة لانتشار ظاهرة الفساد، فهذه الآثار معروفة لدى الجميع، ولكن ما جعلني أعود للحديث عن الفساد، ليس هو الاستطلاع الذي نشرته الثورة، وإنما سبب آخر، هو الإعلان عن تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية من قبل الإدارة الأميركية. والتشديد هذا يشمل إدراج بعض الأسماء من رجال الأعمال (بتهمة الفساد).
وهذا يعني أن (سلاح الفساد) يُشهر من قبل الولايات المتحدة بعد إشهار (سلاح الإرهاب) ويتخذ وسيلة وأداة سياسية لتحقيق الأغراض التي تريد تحقيقها، وبالتحديد في الضغط على سورية من أجل إجبارها على الانضواء تحت مظلة السياسة الأميركية والالتحاق بمشروعها الشرق أوسطي. والقبول بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي والمساعدة على تأمين الاستقرار والأمن للاحتلال الأميركي في العراق، والاستقرار والأمن لإسرائيل في فلسطين، وتنصيب أحباء بوش ورايس في لبنان.
لكن للمسألة وجه آخر، إن اتخاذ (محاربة الفساد) كشعار من قبل الولايات المتحدة، إنما هو (كلمة حق يراد بها باطل)، فهي تعرف أن هذا الشعار يستهوي الرأي العام في سورية، وقد فشلت في سعيها إلى كسبه عن طريق ما يدعى «الديمقراطية وحقوق الإنسان» وكذلك عن طريق (محاربة الإرهاب)، وهي اليوم تجرب حظها في طرح شعار (محاربة الفساد).
والفساد الذي تعنيه (بالطبع) حسب الحجم، هو الفساد الكبير الذي عرفته سورية عن طريق الشركات الأجنبية التي عملت على الحصول على العقود عن طريق سماسرة من رجال الأعمال الذين استطاعوا بناء (إمبراطوريات) من الأنشطة الاقتصادية على حساب القطاع العام والمال العام، مما أسهم في توسيع دائرة الفساد، وإلى جانبها توسيع دائرة الفقر، وخلقت في المجتمع انقسامات حادة بين مَّنْ يملك ومَّنْ لا يملك. مما يهدد السلم الاجتماعي ويُحدث الخلخلة في العلاقات الاجتماعية.
لكن (محاسبة) هؤلاء لا تتم عن طريق الخارج، ولا الولايات المتحدة هي التي تحاسب، ولا القوات الأميركية التي فعلت ما فعلت في العراق وفي غيرها من بلدان العالم مَّنْ تقيم مجتمع العدالة وتقضي على الفساد.
فالولايات المتحدة، قد تكون، وبسبب طبيعة نظامها، لا تعاني من الفساد الاقتصادي الصغير في داخلها، لكن مَّنْ لم يسمع بفضائح التدقيق المحاسبي في الشركات الكبرى؟ وما الذي تعانيه الآن في أزمة الائتمان العقاري؟ وماذا يمكن أن تدعو ما تقوم به في جميع دول العالم الثالث لشراء ضمائر بعض المثقفين والأكاديميين والعاملين في الصحافة والإعلام تحت عناوين حقوق الإنسان ونشر مبادئ المجتمع المدني، وتوسيع دائرة المعرفة والتدريب والجولات الاطلاعية بما فيها (مصروف الجيب) الذي تقدمه (للمحظوظين) من رجال الإعلام وأدعياء الثقافة. وماذا يمكن أن ندعو ما تقدمه من ملايين الدولارات إلى المعارضات التي تقرر دعمها في بعض بلدان العالم الثالث من أجل مساعدتها للانقضاض على الأنظمة الحاكمة في بلدانها؟
الفساد آفة اجتماعية واقتصادية مدمرة للمجتمع وقيمه وللاقتصاد وتنميته، وهو جزء من عملية متواصلة لإضعاف سورية، وجعلها لقمة سائغة للمفسدين والفاسدين. ومكافحته لا تأتي من الدهاليز الفاسدة في الإدارة الأميركية.
إن مكافحة الفساد تأتي بالإرادة السياسية من داخل البلد المعني، وهي مهمة وطنية بالدرجة الأولى، ولن تنطلي على الناس الشعارات التي تطلقها بعض الفئات الموتورة التي تدعي المعارضة وهي غارقة لأعناقها بالفساد، تماماً كما لن تنطلي على شعب سورية إدعاءات الولايات المتحدة.
أخشى ما أخشاه، أن تتخذ العقوبات الأميركية الاقتصادية الجديدة (والتي قد تصيب بعض رجال الأعمال) حجة في تأخير اتخاذ إجراءات وطنية عاجلة أصبحت مطلوبة في سياق عملية الإصلاح الاقتصادي المنشود، وتتعلق خاصة، بمعالجة أسباب الفساد بنوعيه الكبير والصغير والقضاء عليها والسير بخطى ثابتة لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي يطمح إليها شعبنا.