الرقم الإحصائي.. أهميته ودلالاته
يضطر الإنسان أحياناً أن يتطرق ويناقش أموراً تكون من البديهيات في الدول المتقدمة في زمن الثورة التقنية والمعلوماتية، وفي مقالتنا هذه سوف نتطرق إلى موضوع يعد من الأسس التي تستند عليها السياسات والخطط والدراسات والتنبؤات والإسقاطات في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعلمية، ألا وهو الرقم الإحصائي والبيانات الإحصائية. فلا يستطيع دارس أو باحث أو مهتم أو مسؤول أن يقوم بأية دراسة أو اتخاذ قرار صائب وواقعي ودقيق في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إلا من خلال الاعتماد على رقم إحصائي، وبيانات إحصائية دقيقة، فكما نعلم إن معرفة الأسباب الحقيقية لها واستنباط الحلول التي تكون بحسب حجم المشكلة، فإذا كان تشخيص المشكلة غير دقيق وغير واقعي من حيث حجمها، فلا بد أن تكون الحلول خاطئة، وبالتالي يترتب عليها نتائج سلبية يختلف حجمها بحسب حجم المشكلة الأساسية.
وهذا ما يمكننا تشبيهه بالمريض الذي يذهب إلى عيادة الطبيب، فتشخيص المرض هو أهم خطوة يقوم بها هذا الطبيب من خلال معرفة العوارض التي يعاني منها المريض، وبالتالي يكون العلاج مرتبطاً بهذا التشخيص من خلال الأدوية المناسبة والتعليمات، وهنا يمكننا الاستفسار: ما الآثار الناجمة عن التشخيص الخاطئ للمرض الذي بدوره سوف يؤدي إلى دواء لغير المرض الحقيقي؟ وكذلك ما هي انعكاسات أن يصف الطبيب دواءً غير مناسب في حال التشخيص الصحيح؟ أي أنه يمكننا القول إن المعرفة المتكاملة بأعراض المرض وبالعلاج الصحيح في ظروف طبيعية يؤدي إلى علاجه.
وهنا فإن الرقم الإحصائي والبيانات الإحصائية تعد الأساس الذي يعتمد عليه في معرفة الكثير من السلبيات التي تعاني منها التنمية بكافة أنواعها في بلد معين، وعلى هذا الأساس تشّخص هذه السلبيات وتوضع الخطط والتنبؤات والبرامج اللازمة لعلاج هذه السلبيات في المدى القصير والمتوسط والطويل، وكذلك من خلال الرقم الإحصائي والبيانات الإحصائية يمكننا أن نحكم على الأداء في مجال ما، والانحرافات التي وقعت في حال وجود خطة مسبقة، وهذا يدلنا على أهمية الرقم الإحصائي من خلال كونه قيمة إثبات ورقابة وإسناد بالرغم من صغر الحيز الذي يشغله من الورقة، ولكن انعكاساته كبيرة، وأهميته أكبر، وتشمل جميع مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية كالرقم الدال على معدل النمو.
ومن خلال أهمية الرقم الإحصائي نستطيع أن نقدر الآثار والمخاطر والسلبيات الناجمة عن عدم واقعية الرقم الإحصائي، وعدم مصداقيته، ومدى المجالات الواسعة والآثار التي يمكن أن تنتج عن عدم واقعيته الناجمة عن ضعف الأجهزة والخبرات والمؤسسات التي تجمع البيانات الإحصائية وتضعه، أو عن تضليل مقصود من خلال اللعب بالرقم الإحصائي سواء بزيادته أو إنقاصه. وهذا يدلنا على أن دقة الرقم الإحصائي وواقعيته ومصداقيته دليل على خطوات صحيحة في طريق التطور والتنمية المستدامة، وفي صدق العمل من أجل المعرفة الحقيقية للواقع المعاش من أجل تطويره. والاستهتار بالرقم الإحصائي هو أمر يراد به تضليل القارئ أو صانع السياسة أو المواطن من أجل إخفاء بعض السلبيات في السياسات المنتهجة أو لتبرير سياسات معينة.
وهنا يجب لفت النظر إلى طريقة ومبررات التضليل التي يستخدم بها الرقم الإحصائي:
1 – يكون بإعطاء أرقام مضخمة أو منخفضة حسب الحاجة لتضليل الباحث أو القارئ أو المسؤول عن الأداء الفعلي في مجال الموضوع الذي يتناوله الرقم الإحصائي كتضخيم رقم النمو من أجل لفت النظر إلى حسن الأداء الاقتصادي، أو التخفيض أو إلغاء وجود رقم معين، مثلما حصل بالرقم الدال على الفقر في سورية، فقد ذكرت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل بأنه لا يوجد فقر في سورية، وبعد فترة ذكر الدردري في الهند بأن معدل الفقر قد انخفض من 1 % - 12 0% وبالمقابل ذكرت هيئة مشكلة لمكافحة الفقر التي يترأسها د. جمعة حجازي أرقاماً مغايرة كونها هي المخولة بالقيام بالدراسة لهذه الظاهرة، والتي يكاد لا يخلو منها أي مجتمع، فكيف سنقوم بإيجاد الحلول لهذه الظاهرة في ظل تعدد الأرقام؟
وكذلك بالنسبة لمعدل البطالة، فالرقم الذي أصدرته هيئة مكافحة البطالة مثلاً عام 2003
16 %، وكان المكتب المركزي للإحصاء قدرها بـ 16 % والبنك الدولي بـ37 % ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية بـ30 %، وهناك أرقام كثيرة متناقضة لظاهرة معينة وهذا ما يؤدي إلى عدم الثقة بالرقم الإحصائي، ويعطى المبرر لمؤسسات دولية ولقوى محلية وخارجية من أجل استثمار الرقم لأغراض قد تكون ذات غايات لا تخدم متطلبات الاستقرار والنمو الوطني..
2 – إعطاء أرقام مجردة دون ربطها بأي رقم آخر، كأن نقول معدل النمو الاقتصادي بدون أن نذكر معدل النمو السكاني، والذي بحسب الدراسات فإن كل 1 % من النمو السكاني يجب أن يترافق بـ3 – 4 % نمو اقتصادي للمحافظة على السوية نفسها من التنمية في حال وجود خطط اقتصادية واجتماعية مناسبة، أو التعبير عن زيادة الأجور من دون المقارنة مع ارتفاع الأسعار، وبالتالي التقليل من معدل التضخم.
3 – إعطاء أرقام مجردة من دون تحليل بنية هذا الرقم، كأن نذكر حجم الاستثمارات الأجنبية من دون ذكر الاستثمارات الآمنة، أو من دون ذكر المجالات التي استثمرت فيه، وما الفوائد التي حققتها في مجالات تعاني منها البلاد، كأن نذكر عدد فرص العمل التي حققتها ومدى مساهمتها في القضاء على البطالة، أو مدى توزعها الجغرافي، وبالتالي مساهمتها في التخفيف من الفقر، أو مدى العائد الذي تستفيد منه الدولة من العملة المحلية أو العملات الصعبة، وهل تؤدي إلى جلب عملات أم استنزافها؟؟
4 – إعطاء أرقام معينة والتركيز عليها من أجل تبرير سياسات معينة، كأن نركز على حجم وكتلة العجز في الموازنة من أجل تحميل الدعم مسؤولية هذا العجز، وبالتالي الدعوة إلى رفع الدعم تحت مسميات مختلفة، متناسين عدم تناسب حجم الإيرادات الناجمة عن الرسوم والضرائب مع المطارح الضريبية والرسوم الجديدة التي أثقلت كاهل المواطن العادي، أو التركيز على حجم الأموال التي تصرف لدعم القطاع العام من أجل التلميح بمعالجة الخلل بهذا القطاع عن طريق الخصخصة أو اللعب بالمصطلحات كغطاء الاستثمار من قبل القطاع الخاص، ولكن للأسف، فالقطاعات الرابحة هي التي تستثمر كمعمل الاسمنت في طرطوس أو ساحة الحاويات في مرفأ طرطوس، والقادم قد يكون أخطر لولا وجود قوى ومؤسسات تسد الطرق أمام من يصارع من أجل هذه الغايات.
وقد لفت نظري مؤخراً في عدد الاقتصادية رقم 329 تاريخ 27/1/2008 رد أحد الدكاترة والذي دعا إلى الحوار القائم على الأسس المنهجية العلمية، وليس على العاطفة أو على إيديولوجيات ترفية بائدة أكل عليها الدهر وشرب. وبهذا الكلام ألغى وهزأ بالملايين من حملة الأفكار الاشتراكية والشيوعية والقومية الداعية إلى الحفاظ على منجزات التنمية الاجتماعية والاقتصادية التي تحققت في ظل تبني الأفكار الاشتراكية والشيوعية وفي ظل دعم الدولة للمواطن وللمحاصيل الاستراتيجية، في ظل مجانية التعليم التي ساعدت آلاف من حملة الشهادات العليا على إكمال تعليمهم، ويعد الدكتور المتحدث أحدهم، من أجل العودة إلى الوطن ليكون وفيّاً لهذا الوطن الذي صرف عليه الملايين من الدولارات، ولولا دعم الحكومة ومجانية التعليم لما استطاع هو، والآلاف غيره، من تكملة تعليمهم، ولكن آسفاً من يختلف معه ومع أفكاره هو وبعض مروجي الاقتصاد الحديث تحت غطاء الليبرالية الجديدة، يقوم بإنكار وشتم الأفكار والأيديولوجيات التي لا تتناسب معه عندما لا يستطيع الرقم الذي يعتمد عليه إقناع الآخرين أو أن يوصل أفكاره.
من يقرأ هذا الكلام يظن أن المتحدث من المنظرين الجدد كماركس ولينين وماو أو الأرسوزي أو عفلق، ويندهش لهذا الحوار الاقتصادي الذي يعتمد على المنهج العلمي الذي طلب من الآخرين أن يتبعوه، فيلجأ إلى إلغاء الآخر، وإلى التحليل النفسي في دراسة الجدوى الاقتصادية للوصول إلى نتيجة على غاية الأهمية، وهي أن الاستمرار باستيراد مشتقات النفط أكثر جدوى من إنشاء مصافي نفط، لأن إقامة المصافي سوف تؤدي إلى تحفيز المواطنين على زيادة شراء المنتجات من جهة، وسوف يفكر أكثر المواطنين بشراء السيارات، وبالتالي زيادة استهلاك البنزين!! وهذا ما ذكرني بأحد الدكاترة الذين تفضلت عليهم سورية والأفكار «التي ادعى الدكتور سابق الذكر بأنها بائدة» بعد أن انتشلهم من القاع، وأصبح يملك الكثير من السلع التي كان يحلم بها، فأصبح يؤدلج بأنه يجب على أغلب المواطنين أن يظلوا ضمن رغبات معينة، فالفرز ضروري بين طبقات المجتمع، ويجب على طبقة محدودي الدخل ألا يحلموا لا بالسجاد ولا بالغسالة ولا بالتلفاز، فالفرز العلمي يجب أن يؤدي إلى فرز مالي مادي طبقي، وهنا أذكّر مروجي ومدعي الليبرالية الجديدة بأن ما وجدوه في دول الغرب غير الذي يريدون فرضه علينا من جهة، وأن ظروف بلدنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تختلف عن ظروفهم، وأن القوى العالمية الامبريالية التي تعمل على فرض هذه الليبرالية، إن وجدت أن تطبيقها قد يؤدي إلى منجزات اقتصادية واجتماعية وسياسية في بلداننا العربية، فبقوتها العسكرية وأفكارها التدميرية تحاول حرف حتى السياسات التي يحاولون فرضها علينا.
وأخيراً نتوجه بالحديث إلى الإدارة الجديدة للمكتب المركزي للإحصاء بالسعي بالوسائل كافة والإمكانات المتاحة والممكنة وبالتعاون مع المؤسسات التعليمية والبحثية للعمل على إعطاء الرقم الإحصائي المصداقية الكاملة والشفافية المناسبة والثقة والتغطية الكاملة والتوقيت المناسب، وإلزام جميع الجهات الرسمية والمسؤولين بعدم التصريح بأي رقم ما لم يكن صادراً عن المكتب المركزي للإحصاء، وبالتالي عدم ترك رقم إحصائي يتداول في سورية سواء من أشخاص أو مؤسسات دولية دون تبرير اختلافه عن الأرقام الصادرة عن هذا المكتب وإن كان هناك خلاف فلا بد من توضيح الآلية التي احتسب بها.