سياسات أسعار الفائدة السلبية..
يانوس فاروفاكس يانوس فاروفاكس

سياسات أسعار الفائدة السلبية..

كتب وزير المالية اليوناني السابق يانوس فاروفاكس YANIS VAROUFAKIS، والبروفسور في الاقتصاد ضمن جامعة أثينا، مقالاً يتحدث فيه عن سياسة أسعار الفائدة السلبية ودلالاتها في ظل (الانكماش العظيم) الذي يعيشه الاقتصاد العالمي اليوم وفق تسمية الاقتصادي اليوناني..

قاسيون تنشر جزءاً هاماً من المقال المنشور في موقعproject syndicate بتاريخ  22-8-2016،..

كل الأشياء القيّمة لها تكلفة ما، وما من شيء يحمل سعراً سلبياً، إلا إذا كان (أمراً خبيثاً)، مثل النفايات السامة، فقط منتجات من هذا النوع، يدفع مالكها تكلفة أو رسوماً لأي شخص مستعد لإخفائها!.. ولكن هل هذا يعني أن أسعار الفائدة السلبية، تعبر عن أن (المال قد سلك منعطفاً سيئاً)؟!

 في اقتصادات السوق، يمثل المال مقياسا لقيمة السلع والخدمات. وسعر الفائدة هو ثمن هذا المقياس ــ ثمن المال ذاته. فعندما يكون السعر صفراً، لا يصبح هناك فارق ما إذا كان المال محفوظا تحت الفراش أو مُقرَضَا، لأن الاحتفاظ بالمال أو اقتراضه يصبح بلا تكلفة.

كيف يكون سعر المال صفراً أو أقل؟!

ولكن كيف من الممكن أن يصبح سِعر المال صِفراً؟ وكيف من الممكن أن يصبح سلبياً، كما هي الحال الآن في قسم كبير من الاقتصاد العالمي، وكيف وصلنا إلى أن (يرشو) أثرياء العالم الحكومات لكي تقترض منهم أكثر من 5.5 تريليون دولار أميركي؟

لن تكون الإجابة عن هذه التساؤلات إلا من الصنف الذي يمقته أهل الاقتصاد: فهي إجابة فلسفية سياسية، وبالتالي لا يمكن اختزالها في تفسير إيجابي منمّق. بعبارة أخرى، لابد أن تتعلق الإجابة بجوهر المال.

في سوق المزارعين، يبدأ البائعون الذين لديهم مقادير ضخمة من البطاطا غير المباعة في خفض السعر إلى أن يصل إلى مستوى (ربما يكون منخفضا للغاية، ولكنه لا يصل إلى الصفر) تباع عنده كل البطاطا. وفي المقابل، في كل مرة انخفض فيها سعر المال منذ الأزمة المالية عام 2008، ينخفض الطلب عليه وترتفع المدخرات غير المستثمرة. ومن الواضح أن المال ليس كالبطاطا أو أي شيء آخر يمكن تحديد معالمه بوضوح.

ولكي تفهم كيف يكون المال (القيمة العظمى) في مجتمعاتنا ثم يعود علينا بعائد سلبي، عليك تخيل أنك صاحب مشاريع تضع أموالك في البنك، أو أن بنكاً ما حريص على تقديم مبالغ ضخمة للاستثمار في أعمالك. لابد أنك ستمضي لياليك محروماً من النوم تتساءل ما إذا كان ينبغي لك أن تستثمر في منتج جديد ــ أي ما إذا كان ينبغي لك أن تستغل قدرتك على الوصول إلى المال لحمل مجموعة من الآخرين على العمل بالنيابة عنك، أي لاستثمار هذا المال.

ولكن في زمن الانكماش العظيم اليوم، ينبغي أن يكون أكثر ما يقلقك هو القوة الشرائية التي قد يتمتع بها زبائن بضاعتك، وتغير هذه القدرة في المستقبل، فهل ستظل لديهم القدرة والرغبة في شراء منتجك الجديد بأسعار وكميات مرتفعة بالقدر الكافي؟

ولنفترض أنك أخذت في ظل حرمانك من النوم تقلب موجات الراديو أو التلفزيون، فإذا بك تسمع رئيسة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جانيت يلين ورئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي وهما يصرحان بأنهما يفكران في خفض أسعار الفائدة إلى مستويات أدنى. فهل تبتهج إزاء احتمال انخفاض تكاليف تمويلك؟ وهل تجد الدافع لاستثمار أموالك الآن بعد أن أصبحت تكسب فائدة أقل (بل وربما حتى سلبية)؟

كلا وألف كلا. غالباً ستنزعج كثيراً وتقول: (يا إلهي! إذا كانت جانيت يلين وماريو دراجي يفكران في المزيد من خفض أسعار الفائدة، فمن المؤكد أنه لديهما من الأسباب الوجيهة ما يجعلهما يعتقدان أن الطلب سوف يظل منخفضاً!) ومن ثَم تقرر التخلي عن خطتك الاستثمارية. 

وعندها ستقول لنفسك: (من الأفضل أن أقترض المال بلا تكلفة تقريباً، ثم أعيد شراء بعض أسهم شركتي، فأعزز الطلب عليها، وبالتالي أرفع أسعارها بذلك، وأكسب قدراً أكبر من المال في البورصة، ثم أودع الأرباح في البنك ترقبا لأيام عصيبة مقبلة).

وبالتالي، لن تقوم باستثمار المال المعروض عليك إلا في القطاع المالي، وسيهبط سعر المال، ويتزايد المعروض منه.

استقلالية البنوك المركزية هي المشكلة!

ينهمك القائمون على البنوك المركزية اليوم، والذين لم يتوقعوا قط الانكماش العظيم، في محاولة العثور على سبيل للخروج بالاستعانة بنماذج اقتصادية، واقتصادية قياسية لا يمكنها تفسير الانكماش أبدا، ناهيك عن الإشارة إلى الحلول. وترفض البنوك المركزية، غير الراغبة في مجرد التشكيك في العقيدة السياسية التي تقول: إن البنوك المركزية لابد أن تكون محايدة سياسيا، مجرد التفكير في المال باعتباره أكثر من مجرد (شيء). وعلى هذا فإنها تستمر في البحث عن حل تكنوقراطي لمشكلة تستصرخنا طالبة حلاً سياسياً يتسم بقدر من الفطنة الفلسفية.

إنه سعي وراء سراب. فبمجرد انخفاض سعر المال (أسعار الفائدة) إلى الصِفر، حاولت البنوك المركزية شراء جبال من الديون العامة والخاصة من البنوك التجارية لمنحها الحافز للإقراض بحرية. وقد ذهب البنك المركزي الأوروبي حتى الآن إلى الدفع للبنوك لكي تقرض الشركات، وفي الوقت نفسه معاقبتها إذا لم تقدم القروض (عن طريق أسعار فائدة سلبية على احتياطيات فائضة).

ولكن المصرفيين وأصحاب الأعمال، الذين اعتبروا هذه التدابير استجابات يائسة لتوقعات الانكماش، دخلوا في إضراب عن الاستثمار، في حين استخدموا أموال البنك المركزي لتضخيم أسعار أصولهم (الأسهم، والأعمال الفنية، والعقارات، وما إلى ذلك). ولم يفعل هذا شيئا يُذكَر لإلحاق الهزيمة بالانكماش العظيم؛ وتحريك الإنتاج، بل جعل الأثرياء أكثر ثراء، وهي النتيجة التي عززت بطريقة أو بأخرى من اقتناع القائمين على البنوك المركزية بضرورة استقلال البنوك المركزية..

*ينهي الاقتصادي اليوناني، ووزير المالية السابق، مقاله، بالإشادة بطروحات لبعض القائمين على البنوك المركزية العالمية، والذين يعتبرهم خارج (القطيع) الذي يتمسك باستقلالية السياسة النقدية، والمصارف المركزية عن السياسة الاقتصادية للحكومات.. ومعتبراً أن الوقت قد حان لعقد (عهد جديد) في إشارة إلى السياسة الاقتصادية الكينزية المتبعة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد الكساد العظيم.

هل (العهد الجديد).. جديد فعلاً؟

يركز الاقتصاديون أمثال ستيغليتز، وفاروفاكس، بل وكبار الأثرياء العالميين مثل روتشيلد، وسوروس، وكارل إيكان، على دور السياسة النقدية، والمصارف المركزية في الأزمة الاقتصادية التي يشهدها عالم اليوم، معتبرين أن هذه السياسة القائمة على تخفيض أسعار الفائدة ووصولها إلى مستويات سالبة، مع المزيد من (المال السهل) أي ضخ الأموال بتكلفة منخفضة، لم تنجح بتحقيق الغرض منها، وهو تحفيز النمو الحقيقي، وبالمقابل ساهمت في تضخيم أسعار الأسهم نتيجة استثمار هذه الأموال في البورصة، ما أصبح يهدد بانفجارات وخسارات متتالية في أسواق الأسهم المالية العالمية، كما يحذر كل من سبق ذكره..

إلا أن ما يتحدثون عنه اليوم وضوحاً هو ما يجري منذ ثمانينيات القرن الماضي، مع التوسع الكبير في القطاع المالي العالمي، عندما انتقل الوزن الأساسي لاستثمار رؤوس الأموال في هذا القطاع، بدافع أساسي، هو تراجع العائد في الاستثمار الصناعي، وفق ما أسماه ماركس: ميل معدل الربح نحو الانخفاض مع تعقد التركيب العضوي لرأس المال. 

اليوم تنقل الأزمة الاقتصادية العميقة، إلى العلن، مسألة انتهاء الجدوى من القطاع المالي العالمي في زيادة الربح، وإخفاء الأزمة.. بل تدفع كبار أصحاب رؤوس الاموال للبحث عن (حل جديد)، وتحديداً بعد أن أصبح الاستمرار في تضخيم الأسعار في القطاع المالي، خطراً حقيقياً في حال انفجاره..

ولكن هل يعرضون حلاً جديداً؟! لا تزال الحلول الاقتصادية المطروحة اليوم، هي من وحي التجربة القديمة لمرحلة (العهد الجديد) بعد أزمة الكساد العالمي، أي بتجنيد الحكومات والبنوك المركزية في سياسة واحدة، تعبئ القوى وتدير السياسة الاقتصادية بما يخدم إدارة التراجع، وهو ما قد يكون جوهر انتقاد سياسة استقلالية البنوك المركزية، التي أصبح من المطلوب ضبطها في عملية إدارة الأزمة بالطريقة السابقة، فهل تنفع هذه الطريقة بعد أكثر من ثمانية عقود؟! وهل لدى رأس المال العالمي وسائل لزيادة معدل الربح الحقيقي؟! هذه الأسئلة لم تجد طريقها بعد إلى النقاش العلني اليوم لأنها تلامس عمق أزمة الرأسمالية البنيوية كما تحدث عنها ماركس..

قاسيون

آخر تعديل على السبت, 27 آب/أغسطس 2016 21:47