وسيم الدهان وسيم الدهان

النمو السكاني ليس خطراً.. لا يمكن لقوة العمل أن تشكل عقبةً أمام النمو الاقتصادي!

تسلط الحكومة منذ شهور الضوء على مسألة النمو السكاني معتبرةً إياها سبباً أساسياً باحتدام المشكلات الاقتصادية في البلاد، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن نسبة النمو السكاني تراجعت خلال العقد الماضي من 4% إلى نحو 2.5%، وإذا كان هدف الحكومة الأكبر من هذه الإضاءات هو لفت الانتباه إلى أن «النمو السكاني يلتهم معدلات النمو الاقتصادي»، فإن تمحيصاً سريعاً في المسألة يظهر أن معدل النمو السكاني عملياً أصغر من معدل النمو الاقتصادي البالغ حسب آخر الأرقام الرسمية 4.8%، وهذا يبرئ النمو السكاني من أكبر التهم الموجهة إليه، ألا وهي تعطيل نمو الاقتصاد الوطني.

وفي حين يرى البعض أن النمو السكاني «الكبير» يهدد بابتلاع النمو الاقتصادي المحقق، فإنه من المنطقي السؤال أولاً: أليس على النمو السكاني أن يكون أكبر من قرينه الاقتصادي للخروج بهذا الاستنتاج؟ خاصةً وأنه من المعلوم أن معدل النمو وحسب أدنى رقم أطلقته الجهات الرسمية بلغ خلال العام الماضي فقط 4.8% على حين تشير أحدث الإحصاءات إلى أن النمو السكاني لا يتعدى 2.5% ناهيك عن أن الهجرة ابتلعت قسماً كبيراً منه ما لم تكن ابتلعته كله، فما العلاقة إذا بين النموين وما حقيقة الأمر؟
ببساطة يمكن القول إن النمو المتحقق خلال الفترة الماضية وبحسب كل الدراسات التقييمية التي أجرتها الجهات المختلفة لم يكن نمواً محابياً للعمل، أي لم يخلق فرص عمل جديدة، وهذه هي المشكلة الرئيسية في سورية، وأساسها هو أن النمو حصل في قطاعات غير منتجة لفرص العمل وتركز في قطاعات المال والعقارات والسياحة.. الخ، إذاً الخشية ليست من السكان وإنما من النمو الاقتصادي وطبيعة هذا النمو الاقتصادي. ولابد من الإشارة إلى أن المسألة الإشكالية الأولى لا تتعلق بمقارنة النمو السكاني بالنمو الاقتصادي فقط، وإنما بمؤشرات أخرى تظهر مدى ارتفاع أو انخفاض أو حتى مدى كفاية النمو الاقتصادي نفسه، فعندما نقول إن معدل النمو الاقتصادي هو 4.8 أو 6 أو حتى 15% فهذا الرقم بحد ذاته لا دلالة له إلا بعد مقارنته برقمين أو معدلين أساسيين هما: معدل النمو السكاني ومعدل التضخم، فإذا كان معدل النمو الاقتصادي أكبر من هذين المعدلين مجتمعين فإنه يكون معدل نمو اقتصادي حقيقي، أما إذا كان معدل النمو الاقتصادي أصغر من هذين المعدلين مجتمعين فإنه يكون غير حقيقي أو سلبياً، أي إن الزيادة السكانية مع معدل التضخم يلتهمان النمو الاقتصادي، ولكن ما هي حقيقةً أرقام التضخم في الاقتصاد الوطني؟ هذا ما لا يجيب عنه أحد في الحكومة!
وعليه فإن عرض مسألة السكان على أنها التحدي الأكبر والتهويل من تأثيراتها على الاقتصاد الوطني أمر مبالغ فيه إلى حد ما، والمشكلة تكمن في مكان آخر؛ في معدل التضخم الخفي، وعليه يصبح من الممكن قراءة الضرب على وتر النمو السكاني كخطر يهدد النمو الاقتصادي الوطني، بأنه إبعاد لمسألة معدل التضخم عن الواجهة، خاصةً إذا ما أخذت المؤشرات الكثيرة الدالة على تزايد هجرة السوريين إلى خارج البلاد بالحسبان، فالهجرة كما هو معروف تؤدي إلى امتصاص معدل النمو السكاني نفسه، أي بتعبير آخر إلى تخفيف الضغط عن سوق العمل عبر تخفيض معدل البطالة بين السكان بسبب هجرة نسبة معينة منهم، وهذا يدفع إلى القول: إن هناك عنصرين غائبين عن الواجهة حين الحديث حول النمو السكاني وآثاره على النمو الاقتصادي من جهة وعلى الموارد من جهة أخرى وهما: معدل التضخم ومعدل هجرة السوريين، وسبب غيابهما ناجم على ما يبدو عن أن إظهارهما سيظهر الحقيقة التالية: إن تأثير معدل النمو السكاني على النمو الاقتصادي في سورية ضعيف جداً، ولا خوف منه اقتصادياً وإنما الخوف والقلق يتجسدان في معدلات التضخم من جهة وفي طبيعة النمو الاقتصادي الحاصل في البلاد من جهة أخرى!.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيراً من الاقتصاديين يبنون آراءهم في هذه مسألة السكان استناداً إلى النظرية المالتوسية التي ترى أن النمو السكاني أكبر بما لا يقاس من نمو الموارد الاقتصادية والنمو الاقتصادي بطبيعة الحال، وبالتالي فإنهم يرون مشكلةً في هذا الأمر تتعلق بمستوى المعيشة وتتعلق بأن النمو السكاني يلتهم دائماً كل نمو اقتصادي وهذا سيؤثر سلباً على مستوى المعيشة، ولكن النظرية المالتوسية ليست صحيحةً نظرياً ومنطقياً، لأن معدل النمو السكاني هو أساس ثروة أي مجتمع من المجتمعات على الإطلاق، فالسكان هم قوة العمل ولا يمكن لقوة العمل أن تشكل عقبةً أمام النمو الاقتصادي وإنما على النقيض من ذلك، والمسألة هنا تتعلق بكيفية إعادة توزيع الدخل بشكل عام، أي العدالة الاجتماعية أو السياسات الاقتصادية المتبعة التي تجعل من النمو السكاني مصدر قلق عبر تصويره على أنه عقبة في وجه النمو الاقتصادي.
إذاً، يجب أن تتضافر عدة عوامل لتجعل من النمو السكاني عنصر شغب في الساحة الاقتصادية، وعملياً ليست هذه العوامل متضافرةً في سورية، فغياب معدل التضخم عن الحسبة يجعله المتهم الأول بابتلاع معدلات النمو الاقتصادي، أما إذا كانت معدلات التضخم قد انخفضت بتأثير الركود الذي يصيب العالم منذ نهاية 2008، وإذا كانت معدلات هجرة السوريين مستقرة نسبياً خلال السنوات الماضية- 4.3 بالألف خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين-، فإن دائرة الشك تضيق حول معدل النمو الاقتصادي وطبيعته نفسها لتصب المشكلة في خانة توزيع الدخل الوطني الناجم عن النمو المحقق، ومدى تطابقه مع الحاجات الاجتماعية في البلد.