ماتت الليبراليّة وأختها الكبرى في الغرب.. عاشتا في سوريّة!
لا يرى النائب الاقتصادي السيّد عبد الله الدردري أنّ «المال والتأمين والمصارف هي إنتاج ريعي»، كلامه هذا جاء في ندوة الثلاثاء الاقتصادي التي تنظّمها جمعيّة العلوم الاقتصاديّة (قاسيون العدد 390)، بالطبع لم يصطلح السيّد الدردري تسميّة أخرى لهذه القطاعات، وهو يضيف بطريقة لاتخلو من تهكم قائلاً: «إذا كان تفكيرنا ما يزال محصوراً بأن الإنتاج الحقيقي هو ما نستطيع إمساكه باليد... فإن هذا الكلام لا يمت بصلة لما شهده الاقتصاد من تطور خلال خمسين عاماً».. لا نعرف تماماً أيّ اقتصاد ينسب إليّه السيد الدردري التطور خلال نصف قرن، لكنّنا بالمقابل، لا نشك لحظة أن المقصود هو الاقتصاد السوري، المرجّح إذاً، أن يكون الاقتصاد العالمي هو المقصود، أي اقتصادات الدول الرأسماليّة، فهل يرى السيّد الدردري تطوّر تلك الاقتصادات، ثمّ يغض النظر عن أزمتها البنيويّة الحاليّة، التي كانت «تتويجاً» لمسيرة طويلة من الاعتماد على قطاعات «التراكم المرن» والتي يرفض النائب الاقتصادي اعتبارها ريعيّة؟!
من جهة أخرى، وبما أن كلام السيد الدردري جاء بعد انفجار الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، فإنّ من حقّ المواطن والمختص و«الصحفي الاقتصادي البسيط» أن يتساءل فيما إذا كانت الحكومة ككل قد أجرت نوعاً من المراجعة للسياسات الاقتصاديّة المتبّعة؟ فالحديث عن رفض اعتبار قطاعات اقتصاديّة مثل العقارات والمصارف والتأمين بأنّها غير حقيقيّة، يفتح المجال لمساءلة أوسع تبدأ بسؤال «مدرسي» بسيط: ما هو الفرق بين قطاعات الإنتاج الحقيقي وغير الحقيقي؟ ولابدّ من القول إنّ المراجعات المتوفرة لدينا، وهي مزيج من تصريحات ومحاضرات، لا تشبه أية مراجعات اقتصاديّة جديّة، تبدو حتى اليوم سطحيّة، ولن تفيد سطحيتها إلاّ في توفير «بيئة» أمثل لاستقبال تأثيرات الأزمة الماليّة على الاقتصاد السوري برحابة صدر.
مسألة أخرى جديرة بالاهتمام ومثيرة للدهشة، وهي أن ردة الفعل الحكوميّة، وهي التعنت على العموم على كل نقد لسياساتها الاقتصاديّة، أو على«قراءتها» لطبيعة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة وتأثيراتها، تساهم في إظهار اقتصاديي الحكومة وكأنّهم مجموعة من الأشخاص المؤمنين بعقيدة لا تمسّ اسمها الليبرالية، ولا يأتيها خطل أو خطأ، تبدو وكأنها تقول لغير المؤمنين بها «ابتعدوا عن طريقي أيّها البقر، فالحياة بانتظاري»؛ بالإذن من غبرييل غارسيا ماركيز!. على العموم، ما من عقيدة نجحت في أن تكون حقيقة نهائيّة، فكيف وإن مورست في حقل لا يتعرّف ولا يعترف بالعقائد؛ ونعني به الاقتصاد، لذا وبكثير من التشاؤم يمكن القول إن السياسة الليبراليّة المتبّعة اليوم ستفشل في إحداث تنميّة تستفيد منها أوسع شرائح المجتمع السوري؛ في حين أن الفائدة ستعود على قلّة قليلة من أبناء هذا المجتمع، الأمر الذي يهدد بزيادة احتمالات التوتر الاجتماعي وصولاً إلى مآلات لا تحمد عقباها؛ وآثارها السلبيّة ستعود على الجميع.
من ناحية ثانية، يعرض السيّد الدردري رؤيته للتكامل بين القطاعات الاقتصاديّة المختلفة على النحو التالي: «أنا أسمع أن قطاع التجارة ليس إنتاجيّاً وقطاع الصناعة إنتاجي، لكن كيف نبيع ما ننتجه ما لم نعمل بالتجارة؟».. سؤال جدير بالاهتمام حقّاً، لكنّ إن تكامل طرحه مع سؤال آخر: ما هو مستوى انشغالنا بتطوير قطاعاتنا الإنتاجيّة؛ الصناعيّة تحديداً؟ أي ما هو الحجم الذي يجب أن يأخذه هاجس تطوير تلك القطاعات في العمليّة الاقتصاديّة ككل؟ الجواب، للأسف، ليس في صالح النائب الاقتصادي، فوضع القطاعات الإنتاجيّة في سوريّة في تدهور يزداد حدّة في ظل أمرّين: الأول وهو راهن ويتعلّق بتأثيرات الأزمة الماليّة العالميّة على هذه القطاعات، أما الثاني فهو مزمن ويتعلّق بفشل، يتكرر نسقيّاً، في إصلاح القطاع الصناعي، حيث يمكن تعداد ست محاولات لإصلاح القطاع الصناعي في سوريّة جميعها باءت بالفشل (راجع مقالة للزميل نزار عادلة ـ قاسيون العدد 392). كما أنّ الإجابة عن السؤال تغدو أكثر صعوبة في ظل غياب الأرقام التي يمكن الركون إلى دقتها والمتعلّقة بحجم مساهمة قطاعات الإنتاج الحقيقي في الناتج الوطني الإجمالي، إضافة للتأثير المتمادي للأزمة الاقتصاديّة العالميّة على الاقتصاد السوري؛ مثلاً: لا يعرف الكثير من أصحاب المنشآت النسيجيّة العاملة في مدينة الصناعة السوريّة حلب، إن كانوا سيغلقون منشآتهم أم لا، وبالتالي فإن الرقم الذي يتحدّث عن استيعاب هذا القطاع 10% من اليد العاملة السوريّة، ومساهمته بمقدار 30% من إجمالي الإنتاج الصناعي الوطني، يغدو في طور التغيّر لصالح الانخفاض.
من جانب آخر، يرى معظم الباحثين الاقتصاديين والمنتمين إلى تيارات اقتصاديّة مختلفة، أن الأزمّة الاقتصاديّة العالميّة قد طرحت أو أعادت طرح سلسلة من التساؤلات التي زعم «التطوّر خلال خمسين سنّة» أنّه وضعها على الرف، بمعنى آخر، إن الفشل الذي منيت به أفكار النيوليبرالية ونموذجها الاقتصادي والذي لا يزال يروّج له عندنا، قد دفع الجميع لإعادة النظر بمسائل بدت حتى وقت قصير كمسلّمات، الأبرز في تلك المسائل ـ المسلّمات اثنتان: دور الدولة، الاقتصاد الحقيقي؛ وفي حين يذهب هؤلاء إلى ضرورة تعزيز كل من هذين العاملين في الاقتصادات الوطنيّة، يذهب الفريق الاقتصادي في الاتجاه المعاكس، لناحية تقليص دور الدولة، وإضعاف قطاعات الإنتاج الحقيقي، لذا لا نجانب الصواب إن قلنا إن الفريق الاقتصادي هو المقصود بالمثل القائل: «رايحين ع الحج والناس راجعة».