الثلاثاء الاقتصادي يتطرّق للاقتصاد الريعي.. د. غسان إبراهيم: القوى الريعية مناهضة للمنتجين وستطالب بتمثيل سياسي عاجلاً أم آجلاً!
تصدت جمعية العلوم الاقتصادية السورية في ندوتها الأخيرة لموضوع «الأبعاد الاجتماعية للاقتصاد الريعي في سورية»، وقدم د. غسان إبراهيم محاضرةً في هذا الصدد أوضح من خلالها بعض الملامح الريعية في الاقتصاد السوري، معرفاً الاقتصاد الريعي بأنه الاقتصاد الذي تمثل مساهمة القطاعات غير المنتجة فيه نسبة تتجاوز النصف، مقابل القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الزراعة والصناعة. وبعد تحديد مفهوم الريع من وجهة النظر القاموسية والاقتصادية التقليدية، انتقل الباحث إلى تعريف الثروة وأصولها موضحاً الفرق بين الدخل الناتج عن العمل وبين الريع الناتج عن الفارق بين سعر التكلفة- العمل وبين سعر البيع.
وتطرق د. إبراهيم إلى ثقافة الريع موضحاً أنها تؤثر على طبيعة العلاقة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة لجهة عدم الوضوح والاستغلال، ما يسهم في توظيف المصلحة العامة لتحقيق المصلحة الخاصة، إي تساهم ثقافة الريع في تفشي وازدياد الفساد، وأوضح أن المؤسس الفعلي لثقافة الريع تاريخياً هو اقتصاد ما بعد الصناعة، أو اقتصاد الخدمات الذي ابتدعته الطغمة المالية في الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الطغمة حولت الفكر الاجتماعي عن الاهتمام بالصناعة والاقتصاد الحقيقي لمصلحة الخلاص الفردي وتفكيك البنية الإنتاجية، ويتمثل الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة من تكريس هذه الثقافة حسبما أوضح د. إبراهيم بـ«تجميد النمو الحقيقي وتفكيك المجتمعات في دول العالم الثالث ودول منافسيها الاقتصاديين»، فاستراتيجية ما بعد الصناعة أو تطوير الخدمات تعني عملياً وضع حدود للنمو والتنمية، وبالتالي استمرارية التبعية الاقتصادية للدول النامية تجاه الدول الرأسمالية المتقدمة.
أما ملامح الاقتصاد الريعي في سورية فأوضح د. إبراهيم أن التعرف عليها ممكن عبر تحليل تركيب الناتج المحلي الإجمالي، أو عبر تحليل واقع بعض الأنشطة الاقتصادية الريعية، أو عبر معدلات النمو القطاعي، وأشار الباحث إلى أن تجاوز مساهمة القطاعات غير الإنتاجية لنسبة النصف من الناتج المحلي الإجمالي تعني أن الاقتصاد ريعي، أما إذا لم تتجاوز هذه المساهمة النصف فيعدّ الاقتصاد معتمداً بشكل أساسي على الريع، وأوضح د. إبراهيم أن الاقتصاد الإنتاجي أسهم بنسبة 52% في الناتج الإجمالي المحلي لسورية عام 2005 بينما انخفضت تلك المساهمة إلى 45% عام 2008، وبذلك فإن الاقتصاد السوري يعتمد بشكل أساسي على الاقتصاد الريعي، أما من حيث معدلات النمو القطاعية فأوضح الباحث ارتفاع معدلات النمو للقطاعات غير الإنتاجية بنسب أعلى من مثيلاتها للقطاعات الإنتاجية، وهذا يعني أيضاً أن الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل أساسي على الريع.
وحدد د. إبراهيم الأبعاد الاجتماعية للاقتصاد الريعي في سورية استناداً إلى مؤشر الحامل الاجتماعي للاقتصاد الريعي تحديداً، أي «القوى الاجتماعية المعبرة في رؤيتها وأيديولوجيتها ومصلحتها عن الاقتصاد الريعي»، وبيّن الباحث أن الاقتصاد الريعي الذي يستولد ثقافةً خاصةً به يستولد قبل ذلك قوى وشرائح اجتماعية تحتضنه وترعاه وتحميه، وتلك القوى الاجتماعية تعتبر أبعد ما تكون عن ذهنية العمل والإنتاج والإبداع، وأقرب ما تكون في المقابل إلى ذهنية السوق الحرة المتجاوزة لكل ضبط وتنظيم حكوميين، وهذه القوى تشكل قاعدة اجتماعية لما يعرف بالحراك الاجتماعي السريع والخطير في انعكاساته وآثاره ودلالاته، وهي قوى مناهضة للمنتجين من عمال وفلاحين وأصحاب دخل محدود ومن لف لفهم، ويؤدي تنامي الاقتصاد الريعي حسب د. إبراهيم في إلى تراجع تدريجي للاقتصاد الإنتاجي في الزراعة والصناعة، ومن ثم إلى تراجع أهمية العمال الزراعيين والصناعيين، ما يفضي موضوعياً إلى تراجع القوى الاجتماعية المساندة والداعمة لاستراتيجية الإصلاح الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.
فالقوى الاجتماعية الممثلة للاقتصاد الريعي تطرح حسبما يرى د. إبراهيم «توازناً اجتماعياً جديداً تكمن خطورته في التأسيس لمرحلة تاريخية جديدة يعيد فيها هؤلاء القادمون الجدد اقتسام كل المكاسب والإنجازات المتراكمة للطبقات الكادحة، وهم يرون أن السوق يتسع للجميع وبالتالي فكل نشاط اقتصادي مبرر ما دام تحت سقف القانون».
وحذر د. إبراهم من أن «صعود تلك القوى الاجتماعية الجديدة سيقود إلى خلخلة البنية الاجتماعية القائمة عبر التشكيك بكل مرتكزاتها الاقتصادية والسياسة والأيديولوجية والفكرية، ما يحول الاستقرار الاجتماعي إلى (فوضى خلاقة) لا يحتملها إلاّ الأقوى والأصلح»، وفي مقابل هذا يرى د. إبراهيم أن أصحاب الريع وممثليه الجدد سيطالبون إن عاجلاً أم آجلاً بتمثيل سياسي يتناسب وموقعهم الاقتصادي المتنامي والقوي، ما يحول المفاهيم والمكاسب الشعبية المتراكمة والسائدة إلى مسألة تتطلب إعادة النظر، وحدد الباحث هؤلاء بأنهم «الليبراليون الجدد»، موضحاً أن اللبوس الاقتصادي للقوى الاجتماعية الريعية الجديدة لا يتجاوز الاقتصاد غير الإنتاجي، ولذلك فإنه من الضروري والملح جداً حسب قوله: «التركيز على معالجة ذلك الأثر السلبي الناجم عن الاقتصاد الريعي، والخطوة الأولى والصحيحة تتمثل في إعادة النظر بدور القطاعات الاقتصادية لمصلحة قطاعي الصناعة والزراعة عبر زيادة الإنفاق الاستثماري وتحسين الإنتاجية والتحديث التكنولوجي وتطوير الأداء الإداري».
وأوضح د. إبراهيم أن مشكلة الاقتصاد الريعي لا تكمن في «طبيعة هذا الاقتصاد بحد ذاته، وإنما في الاعتماد عليه وعدم خلق أشكال أخرى من الاقتصاد، وفي أن نصيب الاقتصاد الإنتاجي لم يزدد ما أدى إلى زيادة نصيب الاقتصاد الريعي من الناتج الإجمالي المحلي لسورية».