روسيا تشتري الذهب وترمي السندات الأمريكية..
حطم البنك المركزي الروسي العام الماضي رقماً قياسياً جديداً في شرائه للذهب، حيث اقتنى 171 طناً، ما يشكل ثلث الذهب الذي اشترته المصارف المركزية لدول أخرى في العام نفسه.
وفسرت صحيفة «موسكوفسكي كومسوموليتس» الأمر بأنّه ناجم بالدرجة الأولى عن زيادة حجم استخراج الذهب في روسيا التي شغلت العام الماضي المرتبة الثانية في العالم في هذا المجال، واستخرجت 272 طناً من الذهب، ما يزيد بنسبة 9% عما هو عليه عام 2013، علماً أن المرتبة الأولى في هذا المجال تشغلها الصين. أما استراليا فتشغل المرتبة الثالثة من حيث استخراج الذهب في العالم. وقد ترافق الإجراء الروسي مع تصاعد في عمليات التخلي عن السندات الأمريكية المملوكة من البنك المركزي للاتحاد الروسي.
بدأت روسيا بمضاعفة ملكيتها من الذهب بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ عام 2005، ووفقاً للمحلل الاقتصادي «مايكل لومباردي» تمكنت روسيا بين الربع الأول من عام 2009 والربع الثالث من عام 2014، من رفع احتياطياتها من الذهب بنسبة 116% ، من 531.87 طن إلى 1.149.80 طن. وقد نشر البنك المركزي للاتحاد الروسي (CBR) تقريره للأصول الاحتياطية الرسمية التي أشارت إلى أنه تم إضافة 30.5 طن من الذهب لاحتياطياته في شهر أذار 2015 وحده، وهو ما يعد عملية شراء ضخمة هي الأكبر منذ أيلول من العام الماضي، وبلغت قيمة هذه العملية نحو 1.15 مليار دولار. بالمحصلة فقد غدت روسيا بعد عمليات الشراء هذه خامس أكبر مالك للذهب في العالم..
تحصين الجبهة الداخلية
إنّ محاولة فهم أسباب رفع الاحتياطي الذهبي الروسي، والتخلي عن السندات الأمريكية، من زاوية الاقتصاد الروسي الداخلي، تقود التفكير باتجاه محدد، لا يخلو من الصواب، وهو القول بأنّ روسيا بإجراءاتها هذه إنّما ترد على العقوبات الغربية المفروضة عليها، وتسعى إلى تحصين وضعها الداخلي ووضع عملتها «الروبل» التي تأثرت بشكل ملحوظ خلال العام الماضي جراء حرب النفط والعقوبات والتضييقات الاقتصادية الغربية المتنوعة عليها، ذلك أنّ رفع احتياطي الذهب، بوصفه معادلاً دولياً، وبوصفه جزءاً أساسياً من احتياطي مختلف العملات في العالم، هذا الرفع يقلل نسبة تدخل الدولار كاحتياطي يسعّر ويقيم الروبل، كما يفعل مع مختلف العملات. وبكلام آخر يمكن فهم إجراءات من هذا النوع بوصفها «إجراءات دفاعية».
أبعد من شراء الذهب
إنّ نظرة أوسع من زاوية الاقتصاد الروسي الداخلي إلى هذه الإجراءات، نظرة تأخذ وزن روسيا السياسي والعسكري بعين الاعتبار، وتأخذ في الحسبان أيضاً التناغم الروسي الصيني في هذا النوع من الإجراءات، لا بد سيقود التفكير نحو اتجاهات أخرى أكثر عمقاً، وفي مقدمتها مسائل أساسية ثلاثة:
أولاً: إنّ عملية الانفكاك المطرد عن الدولار، ليست دفاعاً ضد العقوبات فحسب، بل هي ضمناً محاولة للانفكاك عن أزمة الدولار، بغرض تقليص آثارها على كل من الصين وروسيا.
ثانياً: إنّ روسيا والصين، ورغم كونهما قوتين دوليتين من الدرجة الأولى، ولكنهما ضمن تقسيم العمل الدولي الحالي، وضمن توزيع الثروة العالمي، لا تزالان جزءاً من بلدان «الجنوب الفقير»، وهذا الجنوب لا يزال خاضعاً لآليات النهب الاستعمارية الحديثة، وفي مركزها التبادل اللامتكافئ الذي يرتكز بدوره إلى الدولار كعملة عالمية. وبذلك فإنّ الخط العام لهذه الإجراءات، ومن وجهة النظر هذه، هو باتجاه التحرر من «الاستعمار الحديث» عبر التحرر من أداته الأهم، الدولار.
ثالثاً: إذا كان ما سبق كلها لا يخرج هذه الإجراءات عن حدود «الإجراءات الدفاعية» وربما «التحررية»، فإنّ إضافة البعد السياسي الدولي الذي بات واضحاً عبر إحداثيات الحرب على الإرهاب وعبر طريقة سير حل الأزمات السياسية المختلفة، السورية واليمنية والليبية والأوكرانية.. يشير إلى أنّ هذه الإجراءات ليست دفاعية فحسب، بل هي أيضاً هجومية غرضها تكثيف استخدام مختلف أدوات الصراع الاقتصادية والعسكرية والسياسية لتثبيت التوازن الدولي الجديد بإحداثياته المختلفة هو الآخر..
أخيراً فإنّ هذه الإجراءات لا يمكن عزلها عن العمل الذي بات واضحاً عبر الصناديق والبنوك الجديدة التي أنشأتها بريكس والساعي إلى إحلال نظام مالي عالمي جديد بوصفه «الأساس التكنيكي» لمنظومة علاقات اقتصادية دولية جديدة تتناسب مع التوازن الدولي الجديد.