عبّاد الشمس:تكييف الزراعة مع السوق العالمية.. خيار السياسة الاقتصادية

تفرض ظروف الحرب تغيرات اقتصادية كبرى، وتحديداً عندما لا تجد هذه الظروف سياسات تقرأ التغيرات، وتأخذ موقفاً منها، وتسعى لتعديلها، ففي مطلع الثمانينيات عندما فرضت العقوبات الاقتصادية على سورية، وظهرت الأزمة الاقتصادية التي نقلت النمو الاقتصادي من 10% سنوياً في السبعينيات، إلى قرابة 1% في عام 1981، توسعت مجموعة السياسات الزراعية التي عززت منظومة المحاصيل الاستراتيجية منطلقة من شعار (الاعتماد على الذات)، حيث تم التسعير بالأسعار المدعومة، وتأمين مستلزمات الإنتاج بسعر يقارب التكلفة، ووضعت الخطط الزراعية وتأمنت شروط تطبيقها، وكانت النتيجة إنقاذ الأمن الغذائي للبلاد، ووصلت سورية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات إلى فوائض تصديرية للقمح ولمجموعة من الحبوب الأخرى، وتوسعت المحاصيل والحبوب بنسبة وسطية 20% تقريباً..

أما أزمة سورية المندلعة منذ عام 2011، فهي تقودنا إلى طريق عكسي، وهذا طبيعي، على اعتبار أن هذه الأزمة ناجمة بالدرجة الأولى عن التراكمات التي أدت إليها الليبرالية الاقتصادية، التي تختار ما تختاره السوق، بلا قرار سياسي اقتصادي وطني فعال، وهذا ما يظهر اليوم جلياً، في التراجع الواضح لمجموعة المحاصيل الزراعية التي لا تحقق (عوائد سوقية) مباشرة، بل تحقق عوائد اقتصادية واجتماعية، أي المحاصيل المرتبطة بالأمن الغذائي مثل القمح بارتباطه بالخبز، والقطن المرتبط بصناعة النسيج، والشعير والذرة الصفراء، المرتبطين بأعلاف الماشية والدواجن، والعدس والحمص وغيرها من البقوليات التي شكلت بديلاً تاريخياً منخفض التكلفة، سد نسبياً ثغرة نقص الغذاء البروتيني السوري الحيواني.

اليوم يترك الإنتاج الزراعي السوري، لعشوائية السوق، فإذا اختارت سعراً منخفضاً للمزارعين خسرتهم وأخرجتهم من الإنتاج، وإذا اختارت سلعاً تصديرية متكيفة مع السوق العالمية، كالنباتات الطبية، فرضت نفسها على المزارعين وعلى مساحات الأراضي السورية، ضاربة عرض الحائط، بمتطلبات اقتصاد الحرب، التي يجب أن تكون قائمة على الأمن الغذائي، والاستهلاك الداخلي.

أما الحكومة فهي تسوق للتصدير في كل المجالات، بينما لا تستطيع أن تضمن أن يُعاد القطع الأجنبي إلى سورية، بشكل فعال، أو أن تحمي الممرات والمعابر، ما يجعل التصدير غير الشرعي عبر التهريب نشاطاً رئيسياً، لتكون عوائد التصدير تعود بربح مؤقت على المزارعين، وربح لمن يستطيعون جمع المنتجات الزراعية السورية وإخراجها خارج البلاد..

إن الزراعة السورية، وكل زراعة في دول العالم أمام سياستين لا خيار ثالث لهما، إما أن تكون مرهونة لسوق عالمية تفرض عليها ما يجب زراعته، وتعطيها عوائد طفيفة، يذهب أغلبها للحلقات التجارية الوسيطة، أو أن تختار الخيار الثاني، بأن تدعم منتجاتها الغذائية السيادية، وتخفض تكاليفها، وتضمن استمرارية زراعتها، محققة عوائد اقتصادية واجتماعية مركبة، ما يسمح بزراعة المنتجات الأخرى بحدود مدروسة، وبطريقة تضمن تحقيق عوائد وطنية عامة منها، أي بتصنيعها، ثم تصديرها، واستعادة قطع التصدير، وليس بالزراعة العشوائية وتصدير الخام عبر الوسطاء، كما يحصل الآن، وكما اختار ليبراليو الاقتصاد السوري للزراعة السورية.